06 يناير 2013

إصدار جديد: المسيحية العربية والقدس

(المصدر : جريدة الرأي لندن - من إلياس نصرالله )
 صدر في لندن أخيراً باللغة الإنكليزية كتاب جديد بعنوان «المسيحية العربية والقدس» لمؤلفه الدكتور رؤوف أبوجابر، وهو باحث أردني متخصص بتاريخ شرق الأردن والكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين، وله مؤلفات عديدة باللغتين العربية والإنكليزية.
 أصدرت الكتاب دار نشر بريطانية جديدة انطلقت في العام الماضي تدعى «جلجامش» متخصصة في نشر الأبحاث والدراسات وكتب المذكرات التي تتعلق بالشرق الأوسط، ويقع الكتاب في 202 صفحة من الحجم المتوسط، وقدّم له الدكتور كارني غيفن، الأمين العام السابق لمتحف الآثار السامية في جامعة هارفرد الأميركية، الذي روى أنه، من خلال عمله في عقد الستينات الماضي منقباً عن الآثار في الأردن، تعرّف على أبوجابر الذي ينتمي لعائلة أردنية عريقة اقتنت الحكومة الأردنية قصرها القديم الفاخر في مدينة السلط وحوَّلته إلى متحف، مما يعطي القارئ فكرة واضحة عن الخلفية الاجتماعية للمؤلف وجذوره العائلية الضاربة في القدم وعلاقته الشخصية بالتاريخ ومدى تأثره به. .
 يضم الكتاب 12 فصلاً إلى جانب مقدمة من أبوجابر وخاتمة وملحق يحتوي على عدد من الوثائق والجداول بأسماء الأماكن المسيحية الموجودة في القدس، خاصة تلك التابعة للكنيسة الأرثوذكسية التي ينتمي أبوجابر إليها والذي رأس في الماضي جمعية النهضة العربية الأرثوذكسية في الأردن وفلسطين ويرأس حالياً جمعية حماية القدس الشريف.
في المقدمة قال المؤلف ان الوجود العربي المسيحي في القدس ابتدأ، بعد ظهور المسيح عيسى بن مريم في القرن الميلادي الأول وتبعه الكثير من العرب في فلسطين وجوارها، ولم ينقطع فيها إلى اليوم. وأوضح أنه ركز في كتابه على حياة المسيحيين في القدس خلال المئتي سنة الماضية، منذ حملة إبراهيم باشا، قائد الجيش المصري على بلاد الشام في النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، وقال «وَعْيُنا ومعرفتنا للأحداث التي مرت بالأراضي المقدسة خلال المئتي سنة الأخيرة، يعززان من دون شك موقفنا الأساسي، مسلمين ومسيحيين على حدٍ سواء، في الدفاع عن الأماكن المقدسة والحفاظ على الهوية العربية للقدس وضمان حريتها بالنسبة للأجيال الجديدة ولمصلحة الإنسانية جمعاء».
 في الفصل الأول يستند المؤلف على كتاب للرحالة الفرنسي فولني الذي زار كلاً من مصر وسورية خلال الأعوام من 1783 إلى 1785، والذي زار القدس ضمن رحلته ووجد أن المسيحيين العرب الساكنين فيها في حينه بلغ عددهم ما بين 12 ألفاً و14 ألف نسمة، وأبرز النزاعات الطائفية بينهم وصراعهم من أجل السيطرة على الأماكن المسيحية المقدسة. وروى أن سكان القدس مسيحيين ومسلمين اعتاشوا في تلك الفترة بالأساس على الدخل الذي وفرّته لهم السياحة الأجنبية للحجاج الأجانب الذين تدفقوا بلا انقطاع على المدينة لزيارة الأماكن المقدسة فيها للمسيحيين والمسلمين على حدٍ سواء.
 وأبرز أبوجابر حقيقة أن عدد الأوروبيين أو الغربيين عامة كان قليلاً بين السياح الأجانب الذين أمّوا فلسطين والقدس في تلك الفترة، فيما كان غالبية السياح من داخل الإمبراطورية العثمانية كاليونانيين والأرمن والأتراك والعرب.
في الفصل الثاني يتحدث أبوجابر عن الوضع في فلسطين وبالذات في مدينة القدس عشية حملة إبراهيم باشا، نجل محمد علي باشا حاكم مصر، على بلاد الشام عام 1831، وفي ظل حكم إبراهيم باشا الذي دام حتى عام 1841، مستنداً على مصادر كتبت في تلك الفترة، منها كتاب وضعه راهب يوناني يُدعى سبيرودون كان رئيساً لدير مار سابا، وهو أقدم دير في فلسطين ويقع في أراضي العبيدية جنوب شرق القدس، والذي دوّن وقائع تلك الفترة كشاهد عيان. من ضمن الأمور التي حسّنت وضع سكان القدس في تلك الفترة إلغاء الرسوم التي كانت مفروضة على الزوار الذين كانوا يأتون من الخارج، مما زاد في أعداد السياح الأجانب ورفع مستويات دخل المقدسيين. لكنه أبرز أيضاً الكوارث الطبيعية التي حلت بفلسطين، والقدس في شكل خاص التي ألحق بها الزلزال الهائل الذي ضربها عام 1834 أضراراً بالغة، ولم تفلت منه حتى الأماكن المقدسة، علاوة على انتشار وباءي الطاعون والكــــوليرا اللذين أوديا بحـــياة أعداد كبيرة من السكان.
 ويرى أبوجابر أنه، رغم السيئات الكثيرة في حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام، إلا أنها تركت أثراً كبيراً على مختلف جوانب الحياة في هذه المنطقة وأدت إلى إحداث تغيير مهم بالنسبة لمعاملة المسيحيين فيها من جانب السلطة العثمانية لاحقاً، وجلبت لهم المساواة في الحقوق والواجبات مع المسلمين مثلما تم التعبير عنها في كتاب التنظيمات الجديد عام 1856 الذي أصدره السلطان عبدالمجيد، بعد توليه الحكم عام 1839 والذي أطلق عليه اسم «الخط الشريف» أو «خطي هميون» بالتركية.
 لكن يبدو أن لكل شيء حسناته وسيئاته، إذ لاحظ أبوجابر أن تحسن الوضع الذي جلبته التنظيمات الجديدة بالنسبة للمسيحيين انطوى على كارثة لم ينتبه أحدٌ لها إلا لاحقاً، وهي أن سماح «خط الشريف» للارساليات الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية بالعمل في الأراضي المقدسة أدى إلى تناحر بين هذه الارساليات لكسب الأتباع، غالباً بالإغراءات المادية، بين المسيحيين العرب الذين كانوا في غالبيتهم السابقة تابعين للمذهب الأرثوذكسي، فأصبحوا ضحية لهذا الانفتاح العثماني، ما ساعد على زرع الخلافات الطائفية بينهم وتفريقهم إلى ملل ونحل ما زالت قائمة إلى يومنا هذا. 
وحمّل أبوجابر المسؤولية الكبرى عن تشرذم المسيحيين العرب إلى القيادة الروحية اليونانية الهوية للكنيسة الأرثوذكسية التي كان جميع المسيحيين منضوين تحتها قبل التشرذم. فالبطريرك اليوناني ومن حوله من رجال الدين اليونانيين الذين فرضهم العثمانيون على الكنيسة في القدس بعد احتلالهم لها في عام 1516 كانوا يكرهون العرب كراهية عمياء، لدرجة أثارت لاحقاً حفيظة الحكومة الروسية التي بدأت تعطف على المسيحيين العرب وتحاول مساعدتهم قدر الإمكان، الأمر الذي أدى إلى صدام بين البطريرك اليوناني وممثل الحكومة الروسية في فلسطين بروفيري أوسبينسكي حول هذا الموضوع. يُشار إلى أن الوضع داخل هذه الكنيسة الأرثوذكسية ما زال على ما هو عليه والخلاف بين القيادة اليونانية للكنيسة والرعية العربية ما زال على أشده إلى اليوم، ويزيده اشتعالاً إقدام هذه القيادة على بيع وتأجير أوقاف الكنيسة في فلسطين للإسرائيليين الذين يستوطنون فيها.
 ويشغل الصراع العربي - اليوناني في الكنيسة المقدسية حيزاً كبيراً من كتاب أبوجابر الذي يعود في كل فصل من فصول الكتاب لتناول الموضوع من زاوية مختلفة، تلقي المزيد من الضوء على هذه الأزمة المستفحلة في فلسطين منذ حوالي 500 عام.
 ويلفت أبوجابر إلى أن الرغبة في السيطرة على الأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين كانت أحد الأسباب لحرب القرم بين روسيا من جهة وبريطانيا وفرنسا والامبرطورية العثمانية وساردينيا من جهة أخرى في الفترة ما بين 1853 و1856، وكانت معاهدة السلام التي تم توقيعها بين الدول المشاركة في الحرب بعد انتهائها سبباً إضافياً في تحسن وضع المسيحيين الذين يعيشون تحت الحكم العثماني، فخلال الحرب انقطعت السياحة عن فلسطين ما ألحق ضرراً فادحاً بسكان القدس وبيت لحم، لكن سرعان ما تحسن وضعهم بعد الحرب.
ويورد أبوجابر قائمة بأسماء المؤسسات المسيحية التي انتشرت في القدس عقب هذه الحرب والأملاك التابعة لها. ويقول انه وجدت في القدس في تلك الفترة 927 قطعة أرض بأحجام مختلفة مسجلة على اسم المؤسسات الدينية المختلفة في المدينة والمؤسسات الحكومية تتوزع كالتالي: 420 قطعة للأوقاف المسيحية، و405 قطع للأوقاف الإسلامية، و40 للأوقاف اليهودية و62 قطعة للحكومة. وبغض النظر عن عدد القطع وحصة كل طائفة دينية منها، يُشار في هذا الخصوص إلى أن الكنيسة الأرثوذكسية تملك لوحدها دون الكنائس الأخرى من الأراضي والعقارات في القدس حوالي 25 في المئة من مجموع الأملاك المسجلة في دائرة تسجيل الأراضي والعقارات إلى الآن. 
ويذهب أبوجابر إلى القول إن الخلاف بين الأرثوذكس العرب والقيادة الروحية اليونانية للكنيسة المدعومة من العثمانيين كان سبباً لإثارة المشاعر القومية العربية ودفع الأرثوذكس العرب للتكتل على أساس قومي ضد الاحتلال اليوناني لكنيستهم وتشكيل الجمعية الأرثوذكسية الوطنية عام 1873 التي بدأت تعمل من أجل التخلص من السيطرة اليونانية على الكنيسة المقدسية.
ويورد أبوجابر صوراً عديدة عن المعارك التي خاضها العرب الأرثوذكس من أجل تحرير كنيستهم من النير اليوناني.
كما يورد قائمة طويلة بأبرز الشخصيات المسيحية في فلسطين التي ناضلت من أجل عروبة كنيستها وخلـّفت أثراً كبيراً في الذاكرة الفلسطينية مثل المؤرخ بندلي الجوزي والمربي خليل السكاكيني والمؤرخ جورج أنطونيوس والديبلوماسي عزت طنوس، والسياسي إميل الغوري والأكاديمي سامي هداوي وغيرهم.
 ورغم انشغال المسيحيين العرب، خاصة أتباع المذهب الأرثوذكسي، بمعركة تحرير الكنيسة من السيطرة اليونانية، يُبرز أبوجابر رفض المسيحيين العرب طوال الوقت للعمل الانعزالي أو الطائفي، مستشهداً بما رواه خليل السكاكيني في مذكراته عن تحرك بعض المسيحيين في يافا على اثر شعورهم بالخوف عشية نشوب الحرب العالمية الأولى، فجاء وفد منهم إلى القدس واجتمع مع عدد من شخصياتها من ضمنهم السكاكيني لبحث مشروع لتشكيل حزب مسيحي. فرفض السكاكيني الاقتراح وقال لهم «أنا عربي أولاً وأخيراً، وأقترح تشكيل حزب وطني يضم أعضاء من جميع الديانات والطوائف يعمل على دعم المشاعر الوطنية وبث روح جديدة في الجميع».
ويضيف أبوجابر قائلاً، انه «نظراً لأننا لم نسمع أبداً عن تأسيس حزب مسيحي من الواضح إذاً أن الغالبية من المسيحيين فضلوا عدم السير بهذا الاتجاه، وأصرّوا على أنهم عربٌ وليسوا بحاجة لمثل هذا الحزب». بل أورد شواهد عديدة على أن إصرار المسيحيين العرب على نبذ الانعزالية والطائفية كان السبب الأساسي في انضمام المسلمين إليهم في المعركة لتحرير الكنيسة الأرثوذكسية من السيطرة اليونانية.
 ويولي أبوجابر اهتماماً خاصاً للتحولات الاجتماعية التي حصلت في فلسطين إبان الانتداب البريطاني عليها بعد الحرب العالمية الأولى إلى عام 1948 ومضي السلطات البريطانية في تنفيذ وعد بلفور بمنح فلسطين وطناً قومياً لليهود، وسط تجاهل كلي لوجود شعب فلسطيني وفتح أبواب الهجرة اليهودية الأوروبية إلى فلسطين، ما أثر على التركيبة السكانية لمدينة القدس التي تحولت من مدينة يتساوى فيها تقريباً عدد اليهود مع العرب أو يزيد عن العرب قليلاً في ظل العهد العثماني إلى أن أصبح عددهم في عام 1945، 97 ألف يهودي مقابل 60 ألف عربي.
 يُشار إلى أنه على عكس المناطق الأخرى في فلسطين التي لم يكن فيها وجود لليهود على الإطلاق حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت القدس على مرّ العصور تحتوي على جالية يهودية، نظراً لأهمية المدارس التوراتية التي كانت الجاليات اليهودية في جميع أنحاء العالم ترسل أبناءها إليها لكي يتلقوا علوم الدين فيها ويعودوا للإشراف على الشؤون الروحية للجاليات التي جاءوا منها، ما خلق مجتمعاً يهودياً في المدينة مهمته إعداد الحاخامات وتخريجهم. فالانتداب البريطاني على فلسطين، وفقاً «لأبوجابر»، قلب الموازين الديموغرافية في فلسطين وفي القدس في شكل خاص وحوّل اليهود في المدينة إلى غالبية ساحقة. ولم يتوقف هذا التحول عند الانتداب البريطاني، فتفاقم الوضع خلال نكبة فلسطين وما بعدها وتم تقسيم القدس إلى قسمين: غربي احتلته إسرائيل، وشرقي انتقل إلى الحكم الأردني وبقي إلى عام 1967 حين احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة برمتها بالإضافة إلى هضبة الجولان السورية في حرب يونيو من ذلك العام. ويقول «أبوجابر» ان المسيحيين في القدس لم يستكينوا للوضع الجديد وهبوا لمقاومة السياسة البريطانية الرامية إلى تهميشهم واقتلاعهم وابتلاع حقوقهم من جانب المهاجرين اليهود الجدد. لم يفعلوا ذلك وحدهم بمعزل عن إخوانهم المسلمين، بل شاركوا معهم جنباً إلى جنب في كل المعارك النضالية، وتصدر رموز منهم الصف الأول في القيادة الوطنية الفلسطينية ونالهم الكثير من الاضطهاد على يد سلطات الانتداب البريطاني سجناً ونفياً وتعذيباً وقطعاً للأرزاق، ويورد «أبوجابر» أمثلة عديدة على ذلك. وتحدث «أبوجابر» عن الدور البارز الذي لعبه مسيحيو القدس والضفة الغربية في الحياة السياسية في ظل الحكم الأردني عندما انتقل القسم الشرقي من القدس مع الضفة الغربية إلى الحكم الأردني وشغلوا مناصب مهمة في الحكومة والبرلمان بمجلسيه النواب والأعيان، مورداً الكثير من الشواهد على ذلك. وعرّج في هذا الفصل على المحاولة اليائسة التي قام بها الأرثوذكس العرب في الأردن عام 1956 من أجل وضع قانون جديد للكنيسة يضمن تمثيل أبناء الطائفة العرب في مؤسسات الكنيسة ومشاركتهم قيادتها اليونانية في إدارة شؤون الكنيسة وأوقافها، وانتهى الأمر عام 1957 بسن قانون رقم 27 الذي ما زال ساري المفعول إلى اليوم في الأردن والذي كرّس السيطرة اليونانية على الكنيسة واستبعد أبناءها العرب. ورغم النكسة التي حدثت عام 1967 لم يستكن مسيحيو القدس إلى الوضع الجديد، وإلى جانب مشاركتهم في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي مضى الأرثوذكس العرب منهم، في شكل خاص، في معركتهم المزدوجة دفاعاً عن عروبة الوطن والكنيسة. ويورد «أبوجابر» أمثلة عديدة على ذلك ويُركز في شكل خاص على المعركة التي ما زالت مستمرة إلى اليوم دفاعاً عن بيع أملاك الوقف الأرثوذكسي إلى الإسرائيليين.
لنشر الموضوع على الفيس بوك والتويتر Twitter Facebook

0 comments:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.