ذلك السِحرُ الحَميد (علاقتي مع القراءة)
يوم الأربعاء الماضي (24 يونيو 2009) نشر ملحق شرفات الثقافي الصادر عن جريدة عمان ملفا حول علاقة الكتّاب العمانيين بالقراءة والكتاب. وكان لي شرف المشاركة في هذا الملف بمقال قصير عن تطوّر علاقتي بالقراءة، أنسخه لكم هنا.
ذلكَ السِّحْرُ الحَميد
أحمد حسن المعيني
ذاتَ ظهيرةٍ من عام 1988 عاد طفلٌ مِنْ مدرسته، دلفَ إلى حجرتهِ منتظرًا هدية عيدِ ميلادهِ بفارغِ الصبر، وما إنْ دخلتْ عليه والدتهُ ومعها ذلك المظروفُ البنيّ حتى تسمّرَتْ عيناهُ عليه محاولأ تخيلَ اللعبةِ الجديدةِ في ذلك المظروف، ولم تكنْ تلكَ اللعبة في الحقيقةِ إلا مجموعة كبيرة من كتبِ الأطفال.
كانَ ذلكَ أولَ عهدي بالكتب (غير الدراسية)، وفرِحْتُ بها كثيرًا رغم أنني لم أكن أعرفُ عنها شيئا. ربما فتنتني ألوانُها ورسومُها وعناوينُها الجذابة. قرأتها كلها، ثم رقمتها وأخذتُ أقترعُ أيها أقرأ مرة أخرى إلى أن أنتهي منها جميعًا، وظللتُ أكرّر ذلك لسنين مع إضافةِ كتبٍ جديدةٍ للناشئة كنتُ أقتنيها من المكتباتِ القريبة، إضافة إلى مجلات الأطفال الشهيرةِ كـ(ماجد) و(باسم) و(أحمد).
أما المحطة الثانية فكانت مع اكتشافِ روايات الجَيب المصريةِ في المرحلةِ الإعدادية، حيث جرّبتُ متعة جديدة لم أجدْها في أيٍّ مما قرأتُ سابقا. كانت المتعة شديدة لدرجةٍ جعلتني أقتطعُ في كثيرِ من الأيامِ نصفَ مصروفي الضئيل لثلاثة أيام كي أوفرَ ثلاثمائة بيسة لشراء عددٍ من "رجل المستحيل". وكانت هناكَ في المدرسةِ قلة يسمونها "ثقيلي الظل الذين يقرأون الكتب" أتبادلُ معهم هذه الروايات.
وأما المحطة الثالثة فكانت في نهاية المرحلةِ الإعدادية عندما أعارني جاري رواية لـ(أجاثا كريستي)، لم أكترث بها زمنا طويلا، ولكن منذ قرأتها أدمنتُ (كريستي). في تلك الأيامِ لم يكن من السهلِ أن أوفرَ ريالا ومائتي بيسة ثمن هذه الروايات، فعمدتُ إلى المشاركة في مسابقات مجلة ماجد، وكنتُ أنالُ ما قيمته 10 أو 20 درهمًا، فأذهبُ من فوري إلى مكتبةٍ قريبةٍ وأشتري رواية لكريستي. وحدث في المرحلةِ الثانويةِ أن حصلتُ على هديةٍ ماليةٍ من أسرتي في وقتِ معرضِ الكتاب، وكانت أيامُ اختبارات منتصف الفصل. في اليوم الأخير للمعرض خرجتُ خلسة من البيتِ واتجهتُ إلى هناك، فوجدتُ روايات كريستي تُباع بنصفِ ريال، فما كان مني إلا أن اشتريتُ حوالي 40 رواية وعدتُ تتملكني الفرحة والخوفُ من افتضاحِ أمري. أدخلتُ الكتبَ سرًا وخبأتها، ولم استطعْ أن أتجاهلها وأدرسَ لاختبار الرياضيات، فقضيتُ ليلي أقرأ، وأقلبُ على مضضٍ بين الفينة والأخرى صفحات دفتر الرياضيات. وفي صباح اليوم التالي كدتُ أرسب في الاختبار.
وأما المحطة الرابعة فكانت اكتشافَ المكتبةِ الإسلاميةِ في روي مع انتقالي لمرحلةِ الثانويةِ العامة. كانتْ تلك السنة أثرى فتراتِ القراءةِ في حياتي، فرحتُ ألتهمُ الكتبَ التراثية والكتبَ الدينية والرواياتِ العربية والمترجمة والدواوينَ الشعرية والكتبَ التاريخية وغيرَها بلا انقطاع، خصوصًا أنه لا توجدُ اختباراتٌ فترية في الثانويةِ العامة. كانت تلكَ السنة ما يشبه الانقطاعَ عن الأصدقاءِ والحارة، فكان أغلبُ وقتي مع الكتب.
تلكَ الهدية التي أهدتنيها أمّي عام 88 كانت كفعلِ السحر الذي لم أشفَ منه. أحببتُ أفلام الكرتون وأفلام السينما، ولكنني كنتُ أستمتعُ بالقصصِ المكتوبةِ أكثر. عشقتُ الكرة ومارستها طِوال صِباي، ولكنني لم أستطع هجر القراءة. أحببتُ الموسيقى والأغاني الجميلة، ولكنني كنتُ أجدُ أصواتًا أعذب في الكتب. ومع مرورِ السنين أجدُ أنّ هذا السحرَ يقوى بدلا من أن يضعف. وقد اكتسبتُ عادة غريبة بدأتْ عندما كنتُ أدرسُ في مانشستر عام 2004، وما زلتُ أمارسُها بوعي أو دون وعي. عندما يتملكني الضجرُ أو الكللُ أو أرغبُ في الترفيهِ عن نفسي قليلا، أجدُني قد ارتديتُ ملابسي وخرجتُ مارًا بالمكتباتِ الشرائيةِ وأكشاكِ بيعِ الكتبِ المستعملة، أتفرجُ باستمتاع، وأتخلصُ من ضجري بشراءِ كتاب، لأعودَ بابتسامةٍِ كبيرة كطفلٍ اشترى قطعة حلوى!
لقراءة نصّ الموضوع كاملا»