قبل أسابيع قليلة رحل عن دنيانا الأديب الشاعر والوزير السعودي (غازي عبد الرحمن القصيبي) لينتهي صراعه الطويل مع المرض، و لتنتهي سبعون سنةٍ من عمره قضى كثيرًا منها شعلة من النشاط لا تهدأ، ما بين قول الشعر، وتأليف الكتب والروايات، والعمل سفيرًا ووزيرًا مراتٍ عديدة. كان صاحب "سبع صنايع" كما وصف بطل قصته الأخيرة، لكنّ بخته وإرثه الأدبي لم يضيعا، وظلّ غازي شخصًا قد يختلف معه وحوله الكثيرون ولكنهم لا يقدرون إلا على احترامه وحبّه. عرفناه روائيًا ساخرًا بامتياز، صاحب أسلوب قد لا يضاهيه أسلوب آخر في سلاسته، وحكمةٍ عميقة يبثها من بين السطور. روايته "العصفورية" صُنّفت من ضمن أفضل مائة وخمس روايات عربية على الإطلاق، وروايته "شقة الحرية" لاقت إقبالا كبيرًا وتم تحويلها إلى مسلسل درامي أذاعته قناة "MBC" قبل سنين. ظلّ القصيبي يكتب حتى الرمق الأخير، وهكذا أخرج لنا كتابه الأخير "ألزهايمر" وهو على فراش المرض، ليصدر عن دار بيسان في بيروت بُعيد وفاته.
اختار القصيبي أن يصنّف كتابه هذا على أنه "أقصوصة" وهو في الحقيقة قصة طويلة، كان يُمكن -لو شاء مؤلفها وشاء القدر- أن تتحول إلى رواية. تدور أحداث القصة حول (يعقوب العريان) المريض بمرض "ألزهايمر" في مصحٍ في أميركا، اختار أن يواجه المرض هناك بعيدًا عن أهله، رفقًا بهم. والقصة مكتوبة بطريقة الرسائل، حيث يُرسل (يعقوب) اثنتي عشرة رسالة- في اثني عشر فصلا- إلى زوجته الأخيرة (نيرمين) يحدّثها عن أحواله وانطباعاته وحواراته في المصحّ مع زملائه.
من يقرأ الكتاب يستشف أنّ القصة ما هي إلا حيلة كتابية يستخدمها (غازي القصيبي) لينقل إلينا حالته الفكرية أثناء المرض الطويل، وليتحدث عن أفكارٍ وجودية مؤلمة، وأفكار أخرى متفرقة يشير إليها في عجالة كعادته. (يعقوب العريان) مريض في السبعين من عمره، وغازي أيضًا مريض في العمر نفسه، والاثنان يقتربان من النهاية. ما يفعله غازي في هذا الكتاب هو إلقاء الضوء على الفزع والألم الذي يكتنف الإنسان في شيخوخته عندما يعرف بأنه مقبل على وهنٍ وعجزٍ ومذلة تأباها كرامته وعنفوانه. أما لماذا اختار القصيبي مرض ألزهايمر بالذات، فربما ليستخدم رمز "النسيان" للدلالة على الضعف والوهن والألم، إذ أي قوة وعزّة وكرامة تبقى لدى المرء (والأمّة) إن تلاشت ذاكرته؟
ومن الصفحات الأولى يعرف المؤلف بذكائه أن القارئ سوف يعتقد أنّ غازي قد يستغلّ هذا الكتاب ليتحدث عن نفسه وسيرته، فيجيب على لسان بطله قائلا: "هذه ليست سيرة ذاتية؛ هذه رسائل من زوج إلى زوجته" (ص30)، ثم ينتقد كتّاب السيرة الذاتية بسخرية لاذعة: "والسيرة الذاتية ليست مبررًا كافيًا، أو ناقصًا، للتعري وإيذاء الناس. لا أدري لماذا كتب أستاذ الفلسفة الشهير سيرة ذاتية لم يترك فيها أحدًا من الذين عرفهم إلا تعرض له بسباب بذيء يأنف منه السوقة. ولا أدري لماذا قال كاتب شهير في سيرته الذاتية أنه كثيرًا ما كان يرى أباه، إمام مسجد الحيّ، يتأبط غلامًا مليحًا. ولا أدري لماذا أخبرنا كاتب شبه شهير أن أباه الكاتب الإسلامي ذائع الصيت لم يكن يصوم ولا يصلي. حسنًا! هذا الموضوع يرفع ضغط الدم عندي..." (ص30).
كعادة القصيبي يحبّ أن ينسج المواقف والحوارات الكوميدية التي تتضمن بعض الرسائل الناقدة الساخرة، وهكذا يعرّفنا على زملائه في المصحّ، مثل ذاك الذي يعتقد نفسه (هنري كيسنجر)، والممثل السينمائي الشهير الذي يفشل في تذكر بعض علاقاته النسائية. ويتحدث البطل (يعقوب) عن سنوات المراهقة، وعن فشله في تذكر التجربة الأولى في أمور عديدة، وحتى اسم زوجته الثانية. ولكنّ هذا الحس الكوميدي يبدأ بالاختفاء من الفصل التاسع حين يبدأ يعقوب بالحديث عن الذكريات السيئة التي يتمنى أن يمحوها المرض، ويزداد الحسّ الأليم في الفصل العاشر حين يذكر لنا تجربة روائية أميركية وعذابها في التعامل مع والدتها المصابة بمرض ألزهايمر. ويستمر في الفصل الحادي عشر بسرد تجربتين أخريين يستخلص منهما أن هذا المرض لا يصرعه شيء، ولا حتى الحبّ ولا الإيمان.
ربما لأول مرة أشعر بالألم والحزن الشديد وأنا أقرأ كتابًا للقصيبي، وخاصة حين يتحدث عن تجهيز المرضى نفسيا للدخول في المراحل المتقدمة من المرض. كم هو مؤلم ومُبكي أن يشبّه القصيبي ذلك بدخول الجحيم في ملحمة "الكوميديا الإلهية" عندما يقول دانتي : "يا من تدخلون هذا المكان اتركوا وراءكم أي أمل في الخروج". ويبلغ الحزن أشدّه في الفصل الأخير عندما يتحدث البطل عن كوابيسه عندما يفكر في ما سيحدث له، وكيف سيتحول هو وزملاؤه إلى "خضروات بشرية" لا تستطيع أن تفعل شيء بنفسها، وتغدو كائنات لا نفع منها ولا قدرة لها على أي شيء.
كتاب جميل سلس جدًا يثير فيك أسئلة كثيرة مقلقة حول المستقبل والشيخوخة، وستعرف كم أنت محظوظ بِنِعَم الله عليك في صحتك، وشبابك، وذاكرتك.
لقراءة نصّ الموضوع كاملا»