لديّ اهتمام قديم بالخِطاب النسوي، وبالقضايا النسوية، وبما تكتبه كاتبات مثل (نوال السعداوي) و (فاطمة المرنيسي) على سبيل المثال، أو حتى من رائدات الكتابة النسوية في الغرب مثل (جيرمين غرير). لذلك كان من المتوقع أن يستحوذ كتاب (جمانة حداد) الجديد "هكذا قتلتُ شهرزاد: اعترافات امرأة عربية غاضبة" على اهتمامي. الكتاب صدر أولا باللغة الإنجليزية عام 2010 ثم توالت الترجمات بلغات كثيرة منها العربية قبل عدة أسابيع عن دار الساقي. يتكوّن الكتاب من عشرة مقالات أو فصول قصيرة، في 190 صفحة من القطع المتوسط.
تقول جمانة حداد إن فكرة الكتاب جاءت بعد سؤال استفزازي من صحفية أجنبية يستغرب أن تقوم كاتبة/امرأة عربية بتأسيس مجلة إيروتيكية باللغة العربية. وتتحدث جمانة حداد في الكتاب عن عدة قضايا متعلقة بالمرأة العربية كامرأة وككاتبة، جامعة ما بين شذرات من سيرتها الذاتية وتأملات وتعليقات على الوضع العربي فيما يتعلق بالمرأة.
لا بد أن أعترف بأنّ الكتاب جاء مخيبًا للآمال على نحوٍ كبير؛ فالكتاب يغلب عليه الخطاب "الصرخوي" الهجومي الذي لا ينفذ إلى أعماق القضايا وسياقاتها ومسبباتها وتشعباتها (إلا في إشارات جيدة واعية في المقدّمة)، بل يكتفي بالتعبير عن الغضب والتهكم. الفقرة التالية نموذج لهذا الخطاب الهجومي الفضفاض: "هكذا غالبيتنا نحن العرب، ينطبق علينا المثل اللبناني الشهير: "بدّي ياه وتفو عليه". نهجس بالجنس، لكننا لا نجرؤ على التحدث عنه. ننهى عن المنكر بيد، ونمارس الدعارة الفكرية (وهي الأدهى) باليد الثانية. أمة عربية سكيزوفرينية واحدة، متحدة، في غالبيتها الكاسحة، حول دساتير الجهل والفصام والتخلف والخبث والتكاذب وفنون الاختباء وراء الإصبع الوسطى" (ص127-128). ربما هذا هو هدف الكتاب أصلا، والخطأ كان مني حين توقعتُ أكثر من اعترافات امرأة عربية غاضبة. لا أظنني أظلم الكتاب كثيرًا إن قلتُ بأنه لم يأتِ بجديد لا على مستوى الفكرة ولا الطرح، ربما باستثناء تقديم طرحٍ نسوي جديد يسعى إلى التوازن، وهو طرحٌ ليس جديدًا بشكل كامل على أية حال.
في المقال الأول تؤكد جمانة حدّاد بأن فكرة الغرب عن المرأة العربية بأنها مغيّبة محجّبة مقموعة، الخ هي فكرة قد لا تكون خاطئة تمامًا ولكنها بكل تأكيد ناقصة، فهناك نساء متحررات مثلما هناك نساء غير ذلك، ويجب على القارئ الأجنبي خصوصًا أن يتنازل عن نظرته الاستشراقية حتى يرى الصورة كاملة. وفي السياق نفسه جاءت فقرة جميلة في المقدمة: "في الشرق أجيال وأجيال من النساء تحت نير التغييب والتكميم والإلغاء والظلامية والقمع والجهل القسري. وفي الغرب أجيال وأجيال من النساء تحت نير التسليع والتسطيح والتعهير، وتحويلهن محض أجساد معروضة للبيع" (ص28). بعد ذلك تتحدث المؤلفة عن بداياتها وكيف أنّ القراءة منحتها تحررًا فكريًا كبيرًا من خلال قراءة أعمال ربما لا تناسب سنّها، كأعمال الماركيز دو ساد. وتتحدث في مقال "امرأة عربية تكتب شعرًا إيروتيكيا" عن ضرورة تحرير الكتّاب من الخوف، وضرورة تسمية الأشياء بمسمياتها دون اللجوء إلى التوريات والاستعارات كفرض بدلا من أن تكون خيارًا.
في الحقيقة وجدتُ مقال "امرأة عربية تعيد تعريف أنوثتها" الأفضل في الكتاب كله، وهو في رأيي ما ينقذ هذا الكتاب. هنا نجد جمانة حداد تنتقد بشراسة الخطاب النسوي التقليدي المتطرف الذي يدعو إلى محاربة الرجل وشيطنته، وإلى التشبه به والتخلي عن الأنوثة لاكتساب القوة. تدعو جمانة حداد إلى توازن يحفظ للمرأة أنوثتها كما يؤكد على تشبثها بحقوقها وقوتها. أعجبني كثيرًا تهكمها من مساندة النساء النسويات لكل امرأة تدخل المعترك السياسي، وكأنه لا بد للمرأة الداعية إلى حقوق المرأة أن تساند أي سياسية فقط لأنها امرأة!
أكثر المقالات استفزازا للقارئ العربي المتديّن خاصة هو "امرأة عربية لا تخاف استفزاز الله" حيث تبيّن بوضوح عدم اقتناعها بالدين كمحدد للسلوك وطريقة الحياة، وتقول بأنّ الدين هو نتاج أشخاص عباقرة يسمون أنفسهم أنبياء أو قديسين بهدف التحكم بالجماهير مع وعدٍ بهديّة أخروية. وتشير المؤلفة إلى أنّ الإسلام والمسيحية (واليهودية أيضًا) لا يختلفان في ظلم المرأة وقمعها حتى لو بدا الوضع أوضح في الإسلام. وقد بيّنت هذه الفكرة في المقدمة عندما قالت "متى نعترف بأن لا تناغم ممكنًا بين تعاليم الأديان وكرامة المرأة وحقوقها؟" (ص23). هناك تشبيه وجدتهُ شديد التطرف في العلمانية تقول فيه جمانة حداد إنّ الصلاة يجب أن تكون مثل ممارسة الحب، شأنا خاصًا؛ فكما يُسجن من يمارس الحب في العلن بتهمة الإساءة إلى الأخلاق والذوق العام، كذلك تجب معاملة من يحوّلون معتقداتهم الدينية إلى كرنفال (ص158).
المقال الأخير "بيان الجريمة: هكذا قتلت شهرزاد" يوضّح رأي المؤلفة في أن كثيرا من النقاد يضخّمون شهرزاد ويبينونها على أنها رمز للمقاونة والعنفوان النسائي، في حين أنها تمثل مسايرة الرجل بإعطائه ما يريد من أجل اكتساب الحرية والحقوق. لذلك، فقد قررتْ قتل شهرزاد.
الخلاصة..هو كتاب ربما يجده بعض الغربيين مثيرًا للاهتمام جريئًا صادمًا (كتب ماريو فارغاس يوسا عن الكتاب أنه "شجاع ومنير حول النساء في العالم العربي")، لكن القارئ العربي-المطّلع على الخطاب النسوي خاصة- لن يجد فيه أكثر بكثير مما قد تقوله فتاة مراهقة متمردة في مدوّنة شخصية. كان يُمكن لهذا الكتاب أن يكون أفضل بكثير جدًا وأن يضيف قيمة كبيرة إلى النتاج النسوي العربي لو أن الكاتبة تمهّلت فيه وتعمّقت أكثر (مثلا: في مقالها حول إصدار مجلة جسد، كان بإمكانها الإسهاب في ما تشكله هذه المجلة من إضافة فكرية/ثقافية/فلسفية بدلا من الاكتفاء برجم منتقديها بالرجعية وازدواج المعايير) . لا أريد أن أظلم جمانة حداد كثيرًا، لكنني لا أوصي بأن يكون هذا الكتاب أولوية لأي قارئ/قارئة.
1 comments:
كنت متحمسة لشراء هذا الكتاب!
فقدت حماسي بعد مقالك! يظهر أنه اعترافات "غاضبة" فعلاً!
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.