في حوالي ساعتين قرأتُ هذا الكتاب الصغير (52 صفحة) الصادر عن نهضة مصر في سلسلة التنوير الإسلامي، يتطرق فيه د. عبدالوهاب المسيري إلى المسائل المثارة حول تحرير المرأة ويحلّل فِكر الحركات النسوية.
المقدمة
في بداية الكتاب يشير المسيري إلى أننا نستورد الكثير من المفاهيم والمصطلحات من الغرب، ولكننا للأسف لا نتناوله بنظرة نقدية، متناسين أنّ المفاهيم تحمل بالضرورة منظور واضعها وتحيزاته التي لا تماثل منظورنا بالضرورة. كما أننا نأخذ المفاهيم ونفصلها عن سياقها الحضاري والفكري العام، فلا نحدد الفلسفة التي تنطلق منها تلك المفاهيم فيما يتعلق بالإنسان ودوره في الكون. ويرى المسيري أنّ ترجمة "النسوية" لمصطلح Feminism ترجمة غير موفقة لأنها لا تنفذ إلى المفاهيم الكامنة وراء المصطلح، والتي وُضعت في إطار ما يسميه المسيري "نظرية الحقوق الجديدة" التي أدّت إلى كثيرٍ من حركات التحرر في ما بعد الحداثة. ويبيّن المسيري رؤيته للإنسان على أنه مختلف عن الطبيعة، له تركيب يمكّنه من تجاوز الطبيعة/المادة، وهذه الإمكانية هي سبب ونتيجة لمركزيته في الكون. هذا في مقابل فكر الحداثة والعلمنة الذي يسير في فلك "الحلولية الكمونية المادية"، أي أنّ "المبدأ الواحد المنظم للكون ليس مفارقًا له أو منزهًا عنه، متجاوزًا له، وإنما كامن (حالٌ) فيه، ولذا فالكون (الإنسان والطبيعة) يصبح مرجعية ذاته، ومكتفٍ بذاته" (ص4).
ولفهم الأفكار التي يطرحها المسيري لا بدّ من توضيح المراحل المكوّنة لهذا الفكر الحلولي الكموني، وهي خمس مراحل متتابعة:
أ- "الواحدية الإنسانية" حيث يُعلن الإنسان أنه مركز الكون وموضع الحلول وهو مرجعية ذاته وأنه يستطيع تجاوز الطبيعة/المادة ويتحدث باسم البشرية أو الإنسانية جمعاء.
ب- "الواحدية الإمبريالية" حيث تؤدي مرجعية الذات هذه إلى الانغلاق على النفس والتفكير فيها لا في غيرها، وسرعان ما يهتم الفرد بذاته في مواجهة غيره، وتصبح ذاته هي موضع الحلول.
ج-"الثنائية الصلبة" حيث يكتشف الإنسان أنّ الطبيعة هي كذلك موضع الحلول وهي مرجعية ذاتها مكتفية بها.
د- "الواحدية الصلبة" حيث سرعان ما تنفك هذه الثنائية لمصلحة الطبيعة/المادة فتصبح الطبيعة هي موضع الحلول الأوحد وأنّ الإنسان يتبع قوانين الطبيعة ويذوب فيها.
هـ-"الواحدية السائلة" حيث تتعدد مواضع الحلول ولا يبقى يقين ومطلق، بل كل شيء نسبي، وتفقد الطبيعة مركزيتها وتصبح الصيرورة والتغير مركز الحلول. هنا عالم ليس فيه أطراف ومركز، قاع وقمة، ذكر وأنثى، فكل شيء يقف على سطحٍ واحد. هو عالم سائل تكون فيه الأسبقية للفرد على المجتمع والمنفعة الشخصية الفردية على حساب قيم المجتمع ومتطلبات بقائه (ص8).
المساوة والتسوية
يفرّق المسيري بين حركة "تحرير الأنثى" وحركة "التمركز حول الأنثى"، فالأولى تنطلق من مفهوم الإنسانية المشتركة (الواحدية الإنسانية)، بينما الثانية تنطلق من فكرة الصراع المستمر ومادية الإنسان. وهذه الحركة الثانية متحررة من التاريخ منفتحة على التجريب المستمر، فلا تستمدّ مرجعيتها من التاريخ الإنساني لأنها ترى فيه ظلمًا على الأنثى، وإنما تعامل الإنسان كمادةٍ يمكن إعادة صياغتها على نحوٍ جديدٍ مختلف مرجعيته الوحيدة هي التغير والتجريب. لذا يدافع هذا الفكر عن "الفقراء والسود والشواذ جنسيا والأشجار وحقوق الحيوانات والأطفال والعراة والمخدرات وفقدان الوعي وحق الانتحار، وعن كل ما يطرأ وما لا يطرأ على بال" (ص10). وهذا الفكر يركز على حقوق الفرد، لا المجتمع، وكأنّ هذا الفرد كائنٌ بسيط غير اجتماعي منقطع عن أي سياق تاريخي لا تربطه علاقات "بأسرة أو مجتمع أو دولة أو مرجعية تاريخية أو أخلاقية؛ هو مجموعة من الحاجات (المادية) البسيطة المجردة التي تحددها الاحتكارات وشركات الإعلانات والأزياء وصناعات اللذة والإباحية (وفي نهاية الأمر صناعة السلاح...)" (ص11-12). في هذا العالم يركّز النظام الجديد على مفهوم الأقليات (الجماعات الدينية، والجماعات الإثنية، والشواذ، والمعاقون، والمسنّون، والبدينون، والأطفال، والنساء) لا بمعنى الأقلية العددية وإنما لتغييب فكرة الأغلبية التي تنطوي على معايير إنسانية وثوابت.
ويستكمل المسيري في الفصل الثالث تبيان الفرق بين الحركتين. تدافع حركة تحرير المرأة عن حقوق المرأة في إطار الإنسانية المشتركة وانتماء الإنسان لمجتمعه وحضارته باستقلالٍ عن المادة، وتعامل المرأة ككائن اجتماعي ينشد العدالة للجميع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا (مع وجود اصوات متطرفة). ولكنّ التغيرات التي طرأت على الحضارة الغربية من تركيز على المنفعة المادية وتسليع الإنسان وإعلاء قيمة الجدوى الاقتصادية، زادت من الاهتمام بالقيم المادية على حساب القيم الاجتماعية والأخلاقية الأساسية. فأصبح عمل المرأة ضروريًا للنظام المادي ولم تعد الوظيفة التقليدية "الأمومة ورعاية الطفل" شيئا ذا قيمة لأنّها غير مجدية اقتصاديًا. ويذهب المسيري إلى أنّ حركة التمركز حول الأنثى هي تعبير عن هذا التحول المادي وتغييب القيمة الإنسانية، وتتبدى رؤيتها في مرحلتين يبيّنهما في الفصلين التاليين.
(1) انقسام العالم إلى ذكور متمركزين على ذواتهم، وإناث متمركزات على ذواتهن، في حالة صراع وهيمنة: هنا تبرز الواحدية الإمبريالية والثنائية الصلبة والواحدية الصلبة. تشدّد حركة التمركز حول الأنثى على الفوارق بين الرجل والمرأة وتقدم خطابا يوحي بأنّه لا توجد انسانية مشتركة بين الرجل والمرأة. المرأة هنا "متمركزة حول ذاتها تشير إلى ذاتها، مكتفية بذاتها، تود اكتشاف ذاتها وتحقيقها خارج أي إطار اجتماعي، في حالة صراع كوني أزلي مع الرجل المتمركز حول ذاته، وكأنها الشعب المختار في مواجهة الأغيار" (ص20). هنا القضية ليست الدفاع عن حقوق اجتماعية وسياسية، وإنما بحث عن الهوية، ليس الأمر نشدان للعدالة وإنما تكريس لفكرة الصراع بين جنسين متمركزين على الذات. وفي إطار هذه الرؤية تبحث دعاة التمركز على الأنثى عن تاريخ الأنثى، وتذهب بعضهن إلى وجود معارك في الزمن القديم تحوّلت المجتمعات إثرها من مجتمعات أمومية (ذات سيطرة أنثوية وآلهة أنثوية ونظام اجتماعي أنثوي) إلى مجتمعات بطريركية ذكورية، وإلى أنّ التاريخ أصبح يُسرد من وجهة نظر ذكورية يقصي الإناث. وهكذا تبرز الدعوة إلى نبذ هذا التاريخ والبدء بالتجريب المستمر و"إعادة صياغة كل شيء: التاريخ واللغة والرموز، بل الطبيعة البشرية ذاتها كما تحققت عبر التاريخ وكما تبدت في مؤسسات تاريخية وكما تجلت في أعمال فنية، فهذا التحقق والتبدي والتجلي إن هو إلا انحراف عن مسار التاريخ الحقيقي" (ص22). انطلاقا من ذلك يُدعى إلى التغيير في اللغة الذكورية (مثلا في الإنجليزية تغيير استخدام he إلى s/he، وتغيير women إلى womyn كي لا تحتوي كلمة نساء على كلمة men، وتغيير spokesman إلى spokesperson) واستخدام ألفاظ حيادية لا تحدد جنسًا. يرى المسيري أنّ هذا لا يعتبر برنامجًا إصلاحيًا وإنما سطحيًا لا يحل أي مشكلة. كل ما في الأمر هو نظرة واحدية متمركزة على الأنثى تريد التشديد على استقلال المرأة عن الرجل وعن أي سياق اجتماعي تاريخي، ووصل هذا الأمر إلى تطرفه في تمجيد السحاق، حيث المرأة لا تحتاج إلى الرجل للذة، ولا تحتاج إليه للإنجاب، مستبعدة هذا الشريك الرجل في الإنسانية المشتركة.
(2) حالة واحدية مادية سائلة لا تجد فرقا بين ذكر وأنثى، فلا صراع وإنما ذوبان في عالم بلا ملامح: بعد تحول المرأة إلى كائن متمركز حول ذاته يكنّ عداء وصراعاً مع الذكور، تنتقل إلى الواحدية الصلبة فتكون كائنا طبيعيا/ماديا يتم تفسيره في إطار المادة فقط، فلا تشير المرأة إلى ذاتها وإنما إلى طبيعتها المادية، وسرعان ما تنتقل إلى الواحدية السائلة حيث تتساوى بالرجل لأنهما هما الاثنين مادة تُختزل إلى حالة مادية لا ترى فرقا بين ذكورة وأنوثة في عالم لا مركز له لا يكترث بأية ثنائيات. يقول المسيري أنه بعدما أصبحت المرأة سوبر وومان (في حالة الواحدية الامبريالية) تحولت الآن إلى الفئة الأدنى subwoman، وطريقها إلى الكمال هو أن تتطابق تمامًا مع الرجل السوبرمان. ويذكر المسيري أنّه حتى الإله في هذه المرحلة لا يُشار إليه بhe أو she وإنما شيئا يجمعهما معًا مع الطبيعة he/she/it كما ورد في إحدى الترجمات الأخيرة للإنجيل (ص30).
وفي الفصل السادس يناقش المؤلف حركة التمركز حول الأنثى في إطار النظام العالمي الجديد. يؤكد المسيري على أنّ حركة تحرير المرأة تدرك الفوارق بين الجنسين ولكنها تسعى إلى عدم تحوّلها إلى مبررات ظلم اجتماعي، في حين أن حركة التمركز على الأنثى إما لا تجد إمكانية لتجاوز الفروق بين الجنسين وإما تنكر وجود الفروق. لذلك هم لا يعترفون بتوزيع الأدوار الاجتماعية، فالرجل يجب أن يكون أبًا وأمًا، والمرأة تكون كذلك أمًا وأبًا. ويشير المسيري إلى إمكانية ظهور محاولات في الغرب لردم أي هوة بين الاختلافات عن طريق الهندسة الوراثية بجعل الرجل يحمل مثلا، وعن طريق تمكين زواج المثليين (حيث المشاعر متساوية: يمكن للرجل أن ينجذب للرجل كالمرأة تمامًا).
أما الفصل السابع فيقارن فيه المسيري بين حركة التمركز حول الأنثى وبين حركة الصهيونية، ويرى تشابهات كثيرة بينهما. وفي الفصل الثامن يقترح البديل للدعوات العربية للتمركز حول الأنثى. يعتقد المسيري أنّ الحل ليس في التشديد على حقوق الفرد، وإنما الأجدى هو البدء من حقوق الأسرة ثم الانطلاق منها لحقوق الأفراد المنتمين إليها. ويدعو إلى إعادة الاعتبار لدور المرأة في تربية الأطفال بوصفة وظيفة إنسانية عالية القيمة دون النظر إلى الاعتبارات المادية الصرفة. ويشير إلى أنّه حتى مع الأخذ في الاعتبار الجانب المادي فإنّه يمكننا النظر إلى التجربة الغربية وقراءة الدراسات والمؤشرات التي توضح أثر ابتعاد المرأة عن الأسرة على المجتمعات الغربية ماديًا ونفسيًا واجتماعيًا. المسيري لا يدعو إلى حرمان المرأة من العمل وإنما حلّ المشكلة وفق نظرتنا، فيمكننا مثلا إعادة تقسيم يوم العمل بما يتناسب ودور المرأة كأم. كل ما يدعو إليه المسيري هو إنقاذ المرأة من هذا التوتر الناشئ عن رغبة تحقيق الذات المشروط بالتخلي عن الأسرة.
كتاب ممتاز أوصي بقراءته لكل الشباب والشابات. وأعتذر عن الإطالة إذ يصعب كالعادة تلخيص كتب المسيري لما فيها من أفكار ومفاهيم عميقة.
2 comments:
تشوقت لقراءة الكتاب
شكراً لسعادتكم على النقل المتواضع
:)
سوف احاول اقتناءه في المستقبل القريب
بأذن الله تعالى
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.