(الوطن أون لاين، 4 أبريل 2012)
بين صناعة الكتاب وسلق البيض!
حينما أحاول تخيل المراحل التي يمر بها كل من الكتاب العربي أو الإنجليزي مثلاً، فأنا أتخيل طاهياً مستعجلاً يسلق البيض في الحالة الأولى، ومصنعاً متكاملاً يضم عشرات الموظفين في الحالة الثانية
يحلو لكثير من المثقفين والكتاب والأدباء التشكي من حال الثقافة في العالم العربي، مستشهدين في ذلك بانخفاض معدلات القراءة الفردية سواء بين الأطفال أو الناشئة أو البالغين، كما يعقدون المقارنات غالباً مع القارئ في أوروبا وأمريكا، وهي مقارنات قد تكون صحيحة من حيث الأرقام والنسب المئوية، لكن هل هي مقارنة عادلة وصحيحة حقاً؟
قبل أن نتحدث عن مستوى القراءة دعونا نرَ مستوى ما يكتب أولاً، فلنقارن بين الكتاب الأجنبي والكتاب العربي ليس من حيث المحتوى فحسب وإنما بوصفه منتجاً متكاملاً. قد يعتقد البعض بأن سبب رواج الكتاب الأمريكي (والإنجليزي بالدرجة الثانية) في العقود الأخيرة خاصة في مجالات بعينها مثل عالم التجارة وريادة الأعمال وتطوير الشخصية والتقنية والروايات الأدبية مرده لغة الكتاب فحسب، فالإنجليزية هي اللغة الأكثر انتشارا في العالم كلغة ثانية. ولكن إذا كان ذلك صحيحاً فلم نشهد انتشارا واسعاً داخل الدول الناطقة بالإنجليزية لكُتَّاب يكتبون بلغات أخرى كالبرتغالية (باولو كويلو) أو اليابانية (هاروكي موركامي) أو الإسبانية (إيزابيل اللندي) حيث تترجم كتبهم من فورها لعشرات اللغات الحية؟
أن تصبح كاتباً في العالم العربي يعني أن تكون لديك موهبة بالفطرة تنميها بالقراءة والممارسة ليس إلا، وحين تفكر بنشر كتابك فستعاني من أحد أمرين: إما أن لا تجد ناشراً بالأساس، أو أن تجد من هو مستعد لنشر مخطوطك على أن تتحمل تكاليف الطباعة أو تتحمل مسؤولية النشر أو الاثنين معاً. وما ستحققه من عائد مادي من الكتاب هو مبلغ زهيد جداً هذا إذا لم تصرف عليه أنت بالأساس. ولهذا فإن معظم كتابنا "هواة" بمعنى أنهم لا يتكسبون من عملهم ككتاب، وإنما لديهم وظائف أخرى هي التي ينفقون منها على أنفسهم وعائلاتهم وعلى هوايتهم (الكتابة) أيضاً. ونتيجة لذلك فمن الطبيعي أن نجد كتباً دون المستوى المأمول سواء من ناحية المحتوى أو الطباعة أو الإخراج أو التوزيع، ولهذا تفتقر مكتبتنا العربية إلى كتب في شتى المعارف والموضوعات بعكس نظيراتها الأجنبية. فلا يبقى الحال أمام القارئ العربي هنا إلا أن يتعلم الإنجليزية ليقرأ العدد اللانهائي من الكتب التي تكتب بهذه اللغة أو تترجم إليها. أما الحل الثاني، فهو انتظار أن تتم ترجمة هذه الكتب الأجنبية المتميزة إلى اللغة العربية وأعتقد أن مكتبة جرير لديها جهد متميز في هذا المجال.
والآن لننظر إلى واقع الكاتب في العالم المتقدم، وسآخذ هنا المثال الأمريكي. فهناك ابتداء تخصصات من الجامعة وحتى الدكتوراه في مجال الكتابة سواء الإبداعية من قصة ونثر وشعر ورواية أو للصحافة أو الكتابة العلمية أو الكتابة للأطفال أو المراهقين..إلخ من المجالات المتعددة للكتابة. وهناك دورات تطويرية قصيرة في هذه المجالات سواء كانت مستقلة أو تابعة للجامعات ومعاهد اللغة. أضف إلى ذلك هناك عشرات المؤتمرات الدورية للكتاب والأدباء من المحترفين أو الهواة في كل ولاية أو مدينة تقريباً، حيث تتيح المجال للكتاب ليتبادلوا الخبرات والأفكار ويطلعوا على آخر المستجدات. وهذه مؤتمرات يحضرها المحررون والمدققون اللغويون والناشرون والعاملون في مجال الدعاية والتسويق والعملاء. فلكل كاتب عميل يتولى القيام بمهمة همزة الوصل بين الناشر والكاتب، كما قد يكون من مهامه أيضاً معرفة الموضوعات الأكثر اهتماما في الوقت الراهن من قبل القراء وبيانات الكتب الأكثر مبيعاً بحيث يمكن أن يقترح هو على الكاتب المحترف الكتابة في موضوع بعينه، ثم يجد له ناشراً ويحدد الفترة الزمنية التي يفترض أن يستغرقها الكتاب حتى يصدر. بما في ذلك الوقت المستقطع للبحث في هذا المجال (حتى لو كان رواية أدبية) وللكتابة وثم للتدقيق والمراجعة والتصميم والطباعة ومناسبات التسويق وحفلات الإعلان والتوقيع وغيره. بحيث يعد كل كتاب مشروعاً مستقلاً بحد ذاته عمل عليه أكثر من شخص، فلا غريب إذاً أن يخرج لنا في أجمل صورة وأبهى حلة، وتباع منه ملايين النسخ، ويتحول إلى كتاب إلكتروني ومسموع وربما فيلم سينمائي أيضاً. وبالتالي فبعض الكتاب في الغرب قد تحولوا بين ليلة وضحاها إلى مليونيرات! فهذه الكاتبة (جي كي رولنج) كاتبة سلسلة روايات هاري بوتر، والتي كانت حتى عام ١٩٩٥ تعيش على أموال دافع الضرائب البريطاني، فهي عاطلة عن العمل ومطلقة وأم عازبة لطفلة، فغدت اليوم أثرى امرأة في بريطانيا!
وتصدر أسبوعياً أو شهرياً عشرات المجلات المتخصصة فقط في الكتابة وتقدم نصائح متميزة للكتاب فيما يتعلق بتطوير كتاباتهم، والاستفادة من نصائح كتاب معروفين عن طريق إجراء مقابلات معهم، وتنشر إعلانات عن دور النشر والعملاء والمحررين والمؤتمرات أو المناسبات المتعلقة بهذا الفن والتي تهم العاملين في هذا المجال. أما لو انتقلنا لحجم المصادر المعرفية المتاحة عبر الشبكة فسنزداد حسرة. فهناك مئات المواقع والمجلات والمدونات الإلكترونية المتخصصة في هذا المجال، والعديد من الدورات المجانية والمدفوعة على الشبكة والخاصة بتطوير الكتابة، سواء تطوير اللغة نفسها أو الأساليب الإبداعية والفنية.
وهناك مؤسسات خيرية لديها ميزانيات ضخمة تقوم باستضافة الكتاب في منتجعات منعزلة لفترات تتراوح من بين الأسبوع وحتى الستة أشهر أو العام ليتفرغوا فقط للكتابة! فتمنحهم ثلاث وجبات يومياً مع سكن جيد وغرف مخصصة للكتابة ومكتبة وحواسيب واتصال بالإنترنت وأجهزة طباعة وغيرها، ولا يتبقى لهم إلا أن يكتبوا.
حينما أحاول تخيل المراحل التي يمر بها كل من الكتاب العربي أو الإنجليزي مثلاً، فأنا أتخيل طاهياً مستعجلاً يسلق البيض في الحالة الأولى، ومصنعاً متكاملاً يضم عشرات الموظفين المختصين بمتابعة المنتج في مراحله المختلفة منذ أن كان مادة خاما (فكرة) وحتى تصبح سلعة تنافسية في الأسواق في الحالة الثانية. فقبل أن نتحدث عن عزوف القارئ العربي عن القراءة فليطرح أهل القلم والثقافة والأدب وحتى السياسة على أنفسهم هذا السؤال: هل قدمنا له ما يستحق أن يُقرأ؟
مرام عبدالرحمن مكاوي
2 comments:
شكراً جزيلاً على الموضوع
بارك الله بكم ... على المدونة المميزة
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.