(جريدة الوطن السورية، 7 مارس 2012)
خير جليس في الرصيف كتاب...ناشرون سوريون ...تضارب في الآراء والكتاب بيت القصيد
علي الحسن
وسط زحام المارة في منطقة «الحلبوني» في العاصمة دمشق يجلس شاب ثلاثيني على الرصيف، مستغرقاً في قراءة كتاب، الأمر الذي استوقفني لأستأذن هذا القارئ «الاستثنائي» أقطع عليه استغراقه وأجلس إلى جواره: الشاب عراقي مقيم في سورية أراد تصديق «سند إقامة» فقالوا له إن الموظف المسؤول في مهمة إلى مدينة «القنيطرة» وسيعود عند الواحدة ظهراً فأراد أحمد خلف سالم الجبوري الذي يعمل في «سوق الهال» الانتظار على طريقته: يشتري كتاباً «خالد بن الوليد بطل اليرموك» من رصيف مجاور لقاء 50 ل.س ويقرأ ريثما يعود الموظف..
«ناجحون».. هدايا وتفريط
طبعة الكتاب الأولى «خالد بن الوليد بطل اليرموك» صادرة عن دار العلم للملايين سنة 1970 وبين يديّ الشاب العراقي الطبعة السادسة عشرة الصادرة في كانون الثاني 1982 واللافت في نسخة الكتاب إياها أن صفحتها الأولى تحمل عبارة بخط اليد تقول: «هدية لولدي عمر» ومذيلة بتاريخ 15 رمضان 1403- 25 حزيران 1983 وبتوقيع «الوالد» باسمه الثلاثي الصريح الذي نكتفي بالإشارة إلى أحرفه الأولى (م. ع. ب) والذي لفته ربما اسم خالد بن الوليد وربما لفته أكثر عبارة «الناجحون» عنوان السلسلة التي دأبت دار الملايين البيروتية على إصدارها في كتب عن قادة وشخصيات مبرزة في التاريخ (بينها: طارق بن زياد، صلاح الدين الأيوبي، زنوبيا، عبد الرحمن الداخل، ابن بطوطة، المتنبي وآخرون) فأراد (م. ع. ب) لابنه أن يكون «ناجحاً» (بالنظر إلى عنوان السلسلة) فأهداه نسخة الكتاب.
إخلاص.. حصار وضياع!!
أحمد الجبوري ابن مدينة «الأنبار» العراقية الذي اضطر لترك معهد المعلمين وهو في سنته الدراسية الثالثة «لظروف أمنية»- كما يقول- أيام «الاحتلال الأميركي» للعراق يعلق على إهداء نسخة الكتاب بالإشارة إلى أن الولد «لم يكن جديراً» بهدية والده التي «أضاعها» وربما «أضاع نفسه» ما دام «فرّط» بالهدية ولم يكن «ناجحاً».
وأسال الجبوري لماذا اشتريت هذا الكتاب تحديداً؟! فيقول لأن خالد بن الوليد أحد رموز التاريخ العربي والإسلامي، لافتاً إلى أن الغرب يدرّس سيرته فيما أهمله العرب وهو القائد العظيم، وأن كثيراً من دول الغرب باتت تطبق أفكار خالد بن الوليد، خاصة فكرة «الحصار» فباتت تلك الدول تطبق الحصار على الدول العربية، ويشير الجبوري- بأسى- إلى أننا نحن العرب كنا نقود الغرب وبات الغرب- للأسف- يقودنا اليوم وهذا- برأيه- سبب ضياعنا، لافتاً إلى أن خالد بن الوليد صاحب الفتوحات العظيمة أخلص لدينه ولوطنه لذلك كان قائداً ناجحاً.
عساف: «كبسة» و«لمسة»
عادل عساف- دار البشائر يقول لـ«الوطن»: إن الكتاب كان بأوجه في السبعينيات والثمانينيات ليبدأ فيما بعد الانحسار والتراجع المتواصل حتى انتهى الكتاب وهذا يعود برأي عساف إلى التقنيات الحديثة والإنترنت التي نستطيع من خلالها أن تحصل على الموضوع الذي تريد أياً كان «بكبسة زر» وهذا بطبيعة الحال أسهل من عناء البحث في مكتبة عامة أو خاصة الذي ربما يستمر لأسابيع أو لشهور إذا ما أراد مهتم الحصول على موضوعات ما محددة بعينها.
ولا ينكر عساف أن «لمسة» الكتاب الورقي لها خصوصيتها والتعاطي معه عملية تشترك فيها كل الحواس لكن هذا يبقى برأيه «كلاماً نظرياً».
إغلاق.. و«فشل»
ويشير عساف إلى أن كثيراً من دور النشر أغلقت مكتباتها مثل «عبيد» أول مكتبة سورية، و«أطلس» التي كانت مكاناً للقاءات واجتماعات الرواد والمؤلفين والباحثين إضافة إلى «إيزيس»، «قتيبة»، «الحكمة» ودور نشر أخرى كثيرة أما نحن- يعقب صاحب دار البشائر- فمستمرون ليس لأن المهنة جيدة بل لأن لدينا كتباً مكدسة بالمستودع لافتاً أيضاً إلى أنه لا يمكن أن يستبدل النشر بأي مهنة أخرى ولو فعل لفشل ذلك أن التعامل مع طبقة المثقفين والكتاب والمفكرين يظل مختلفاً.
ساعة حرة
ولا يرى عادل عساف حلاً للعزوف عن القراءة وعودة الكتاب إلى مكانته ما لم تتبن وزارة التربية هذه المهمة، مشيراً إلى فترة الخمسينيات التي كانت الوزارة تدرج في مناهجها التربوية حصة درسية تسمى «ساعة قراءة حرة» رصدت لها عشر علامات لتحفيز وتشجيع التلاميذ على القراءة حتى تكون عادة متأصلة ومستمرة.
«دكاكين...» وتحد!!
أحد أشكال التراجع للكتاب وعلى سبيل المثال برأي عادل عساف أن مكتبة الجامعة كانت تشتري معظم الإصدارات لكنها منذ عشر سنوات لم تعد تشتري الكتب إلا ما ندر. ويختم عساف الذي أبدى تشاؤمه بواقع ومستقبل الكتاب بمثال آخر أن لديه كتاباً بعنوان: «دكاكين وبياعين زمان» يحوي 500 مهنة لكل منها رسم توضيحي مع تعريف بالمهنة ويشدد عادل عسافاً أنه يتحدى العالم العربي إذا كان فيه مثل هذا ويتحدى أيضاً الـ475 مركزاً ثقافياً سورياً إذا كان عشرة منها لديها هذا الكتاب!!
قيروط: أعلى.. «مثل الذهب»
من جانبه عامر قيروط- دار الملايين الدمشقية يرى أن الإقبال على الكتاب ضعف بوجود وسائل الاتصال لكنه لمس التشجيع الذي تقوم به وزارة الثقافة والمراكز الثقافية للكتاب ولمس هذا التشجيع أيضاً من خلال المعارض إن كان في العاصمة أو في المحافظات ويسوق قيروط مثالاً أن «قاموس كونكورد» تبنته ليس فقط وزارة الثقافة إنما وزارات عدة وخاصة أن القاموس صدر بعدة لغات.
ويعول قيروط المتفائل بواقع ومستقبل الكتاب على دور أكبر يمكن أن تقوم به وزارة الثقافة بالتعاون مع وزارة الإعلام لدعم الكتاب وتشجيع القراءة عبر ندوات ومعارض وفعاليات ذلك أن دور النشر بمفردها لا يمكنها أن تفعل ذلك، لافتاً إلى أنه إذا كان الإعلام بات أساسياً وحيوياً فإن وزارة الثقافة هي الحاضنة الأساسية للثقافة وبتعاون الوزارتين يمكن تشجيع الجميع من الطفل إلى الطالب إلى المهتم والباحث ذلك أنه يرى أن الكتاب ينتج ثقافة أعلى من أي وسيلة أخرى، معتبراً الكتاب مرجعاً لا يمكن الاستغناء عنه في أي بيت ومثله في ذلك مثل «الذهب».
أعباء.. ومغامرة
ويرى قيروط في مسألة دعم الكتاب من الدولة ضرورة لا غنى عنها حتى لو تحملت الدولة في ذلك أعباء ما دام الهدف هو الثقافة ودعم الكتاب الجيد يعود بالنفع على الجميع ويشير قيروط إلى تكاليف المشاركة في المعارض فأحياناً تكلفة الجناح تكون عالية لا تتناسب مع الفائدة المادية في ظل القدرة الشرائية المنخفضة، وعليه وإن تم مؤخراً تخفيض تكاليف الأجنحة- فإن المعارض برأي قيروط يجب أن تكون تشجيعية وخاصة لدور النشر السورية، لافتاً إلى أن بعض المؤلفين يقدمون بعض كتبهم دون فائدة وكذلك تفعل بعض دور النشر حتى إن ناشرين يطبعون كتباً أحياناً على صعيد التكاليف المادية بما يشبه المغامرة.
سامي أحمد: تحيّن الفرص
سامي أحمد مدير عام دار التكوين يرى أن المشهد لم يتغير بعد تاريخ طويل من حركة النشر والطباعة في العالم العربي، فما زال الكيان الاقتصادي يعتمد بشكل أساسي على أصحاب المطابع الذين ينشرون الكتب لحسابهم الخاص أو لحساب المؤلفين، مع دخول مالكي مكتبات بيع الكتب إلى الالتزام بالنشر والطباعة، وذلك إلى جانب الناشرين المتخصصين. والباحث في ظروف تحول مكتبات بيع الكتب إلى النشر- برأي أحمد- يجد أن ما يزيد على تسعين بالمئة من عددها الحالي قد أنشأه أفراد، كانوا يعملون في مهنة بيع الكتب لدى أصحابها، وقد تمرسوا في أعمالها، واكتسبوا أسرار المهنة، ثم هالهم ضآلة ما يتقاضونه من أجر بالمقارنة مع مالك المتجر، فآثروا أن يكونوا هم أصحاب مكتبات خاصة بهم تتحول إلى النشر. وقد ساعدهم على ذلك خبرتهم في اقتناص المؤلف الذين اعتادوا التعامل معه، حيث سهل ذلك تحوله من ناشر إلى آخر بسهولة في ظروف عدم الرضى بالمعاملة الاقتصادية واحترام حقوقه. وسينطبق هذا أيضاً- تبعاً لأحمد- على عمال المطابع الذين يتحينون الفرصة المناسبة لإنشاء دور نشرهم انطلاقاً من معرفتهم ببعض أساليب المهنة. وبهذه الطريقة فإن أغلب دور النشر القائمة الآن في العالم العربي قد قامت على نفس المعطيات والطريقة ذاتها.
متطفلون.. ووسطاء
ويرى مدير عام «التكوين» أن النشر كمهنة لها أخلاقياتها ودورها الاجتماعي والفكري بحاجة إلى تحديد علمي وعملي بسبب تكاثر المتطفلين عليها، فهناك مطابع كثيرة في المدن العربية تُصنف تحت اسم دور النشر ومكتبات توزيع تحولت إلى النشر، ما يسيء بالنتيجة إلى الناشر الحقيقي، وتحويله أحياناً إلى مجرد وسيط. وبالارتباط مع مفهوم الكتاب كأداة اتصال اجتماعي فإن مفهوم كلمة «نشر» هو أن تعمم، وتنشر بين أفراد المجتمع بالكلمات والصور الأفكار التي أنتجتها العقول المبدعة، والتي صاغها المحررون، والتي جهز الطابعون نسخها. فإذا ما انطبق هذا المفهوم على الكتب، فهو يعني سلسلة متتابعة ضخمة من ضروب النشاط الفكري والعملي، والتي لا يمكن لحلقة واحدة منها بمفردها أن تُسمى نشراً. ولا يكتمل ذلك فقط بتحول المخطوط إلى كتاب مطبوع، وإنما أيضاً بتوزيعه بأسواقه، والتي تكتمل بها عملية النشر. أما القيام بخدمة تحريرية فلا يعد نشراً، ومثله خدمات الطباعة والتجليد أو تنمية المبيعات فكل واحدة منفردة منها لا تعد نشراً.
بائع الملابس.. لا فرق كبيراً!!
ويشير أحمد إلى أن مفهوم «نشر الكتاب» يتضمن جميع هذه الإجراءات في عملية متكاملة الجوانب، سواء قامت بها مؤسسة واحدة أو عدة مؤسسات، وهو بالنتيجة يعني جميع الإجراءات الفكرية والفنية والعملية لاختيار موضوع الكتاب وترتيب إصداره وتنمية توزيعه. وتتطلب دار النشر في هذه الشروط إنشاء مؤسسة عصرية يتم فيها الالتقاء بالمؤلفين الذين يرغبون بنشر كتبهم، وتضم جهازاً متكاملاً من المحررين والمراجعين الفنيين والمتخصصين في الدعاية والإعلان والعلاقات العامة. وينتهي عمل الناشر بإتمام إعداد المخطوطة إعداداً سليماً، وإخراج الكتاب إخراجاً متقناً، ومحاسبة أصحاب الحقوق حساباً عادلاً، ومن ثم تسليم الكتاب مطبوعاً إلى مكتبات البيع والتوزيع. ويشدد أحمد أنه يجب أن تتأطر هذه العمليات كلها برؤية ثقافية فكرية للناشر، تجعل كتبه الخاصة معبرة عن مشروع ثقافي خاص بدار نشره، يسهم من خلالها بتنمية مجتمعه في مختلف المجالات. وهذا الشرط الأخير هو الذي يتناساه المتطفلون إلى مهنة النشر، لا فرق كبيراً من أن يكون ناشراً أو بائع ملابس، فالمهم بالنسبة له هو ما يدر مالاً أكثر.
لا تبدؤوا من الصفر.. الهواء والرعشة
مشكلة الثقافة العربية برأي أحمد لا يمكن حلها إلا بعودة الطبقة الوسطى، وإعادة الاعتبار للمناهج العقلانية والرؤى الإنسانية، لأن العالم العربي الآن محكوم بكتب الغيب وخلافات تراثية فقهية لا تقدم، ولا تؤخر ولكنها فقط تؤدي إلى ضياع للوقت لإنهاك الثقافة العقلانية واحتلال مواقعها التي نحن بحاجة إليها كالهواء.
أما المطلوب الآن يختم سامي أحمد حديثه فهو حراك ثقافي حقيقي وفعال، يعيد إلى الحياة الثقافية ألقها وقوتها بعد غياب طويل، وتجسيد هذا الحراك يتمثل في تفعيل المؤسسات الثقافية ومجلاتنا وصحفنا التي تبدو وكأنها بلا جذور أو إرثٍ ثقافي يعرفه العرب. لا تبدؤوا من الصفر، لا تُعيدونا إلى الوراء، رجاؤنا الوحيد أن يتولى مسؤولية الثقافة من هو قادرٌ على النهوض بها والانطلاق من النقطة التي بلغتها، لأن الثقافة اليوم تحتاج إلى أعصاب تمنحها رعشة جديدة.
0 comments:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.