(ملحق شرفات بجريدة عمان، 20 مارس 2012)
ضعف انتشار الكِتاب العماني: رأي في المشكلة واقتراحٌ للحل
أحمد حسن المعيني
في حوارٍ قصير على "التويتر" أشار الناقد السعوديّ (محمد العبّاس) إلى أنّ "عُمان تمتلك منتجها الثقافي اللافت، ولكن لديكم مشكلة في تصدير المنتج وتسويقه"، وأقرَّه على ذلك أكثر من شخصٍ عماني بينهم كاتب هذه السطور، فكان أن أثار ذلك الحوار بعض الأفكار التي أطرحها في هذا المقام. والسؤال الأساسي الذي تنطلق منه المناقشة هو: لماذا لا يحقق الكتاب العماني انتشارًا وحضورًا بارزًا على المستوى الخليجي أو العربي؟
يرى البعض أنّ أحد أسباب ذلك هو قلة المؤلفين والكتب العمانية مقارنة بالدول الأخرى، خاصة تلك التي تصدر عن كبريات دور النشر العربية. وهذه الملاحظة صائبة في تفسيرها للوضع خلال العقود الماضية، إلا أنّ الأمر قد تغير كثيرًا في السنين الأخيرة، فمعرض الكتاب الفائت خير شاهدٍ على وفرة الإصدارات العمانية الجديدة في عدة مجالات وعن مختلف دور النشر في العالم العربي. وبعد أن كان أغلب المؤلفين العمانيين يطبعون كتبهم بأنفسهم، توجد الآن عدّة قنواتٍ لنشر الكتاب العماني في داخل عُمان كإصدارات وزارة التراث والثقافة، أو عبر دورٍ عربية كبرى كمشروع البرنامج الوطني لدعم الكتاب، والجمعية العمانية للكتاب والأدباء، ومشروع أقاصي، وحتى المبادرات الشخصية من بعض المواقع الإلكترونية العمانية مثل سبلة عمان ومجلة الفلق ومدوّنة ساعي البريد.
ويرى البعض أيضًا أنّ أحد الأسباب هو غياب دار نشرٍ عمانية تقترب في مستواها من دور النشر العربية الكبيرة من حيث إقبال المؤلفين، وتنوّع الإصدارات، ومستوى التوزيع، وجودة الإخراج، الخ. يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أنّ وجود مثل هذه الدار سوف يسوّق اسم الثقافة العمانية وبالتالي المثقف العماني وإصداراته. وبرغم ما في هذا الرأي من صواب، إلا أنّ وجود الدار ليس عاملا حاسمًا أو ذا تأثير كبير؛ فكبار الكتّاب الخليجيين المعروفين الآن على المستوى العربي لم يذع صيتهم من خلال دور نشرٍ في بلادهم. في الواقع لم توجد دور نشرٍ خليجية بارزة إلا منذ عهدٍ قريب فقط (كالعبيكان في السعودية ومدارك في الإمارات والدوسري في البحرين).
وهناك من يرى أنّ المؤلف العماني يفتقر إلى الثقة بنفسه وبقدرته على المنافسة، وهذا رأيٌ لا يستند على دليلٍ موضوعي، ولا يكاد يتكئ إلا على التواضع المعهود لدى "الشعب" العماني. كما أنّ فاقد الثقة لا ينشر إصداراته عن دور نشرٍ كبرى (مثل دار الآداب، ومركز دراسات الوحدة العربية، والجمل، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، ومؤسسة الانتشار العربي، وغيرها). إنّ المشكلة الحقيقية لا تبدو في نقص المؤلفين أو الإصدارات أو الثقة، ولا غياب دار النشر العمانية، فهذه قد يُنظر إليها على أنها تمثلات للمشكلة وليست أسبابها. ما أقترحه هنا كتشخيصٍ للمشكلة هو غياب "صِناعة الكتاب"، والمقصود بهذا المصطلح وجود منهجٍ واضح ومدروس لإنتاج الكتاب العماني الناجح وتسويقه.
رأي في الحل
فيما يلي بعض الملامح التي يمكن أن يتصف بها منهج "صناعة الكتاب".
أولا: صناعة مشاريع الكتب. إنّ للناشر دورًا هامًا لا يُلتفت إليه عادة في تأريخ الكتابة والنشر، ألا وهو انتقاء أفكارٍ للكتب أو "اختراعها"؛ فالناشر الناجح لا يكتفي بانتظار ما يجود به الكتّاب من مخطوطات، وإنما هو الذي يقترح عليهم أفكارًا مميزة للتأليف. الكاتب يُتقن صَنعة الكتابة والتأليف، بينما الناشر هو الأقرب إلى سوق الكتاب وذائقة القرّاء ومعرفة الفجوة التي يُمكن سدّها بكتابٍ جيد. يحدث هذا دائمًا في دور النشر الغربية، حيث يدرس الناشر سوقًا محددة في مجالٍ محدد ويستنتج المؤلفات التي ستلقى قبولا في تلك السوق، فيقوم باستكتاب كاتبٍ ما لإنجاز الكتاب. دار النشر ليست مؤسسة ثقافية خيرية وإنما شركة تجارية، وعلى الناشر أن يسعى إلى توفير الإصدارات التي تحقق الأرباح. يذكر موقع النادي الثقافي أنّ البرنامج الوطني لدعم الكتاب يطرح "فكرة الاستكتاب في محاور معينة ذات أهمية قصوى أو ندرة في التأليف، حتى يسهم البرنامج في سدّ حاجة معرفية تتسم بالضرورة البالغة"، ولعلنا نذكر إعلان البرنامج قبل حوالي عامين عن رغبته في استكتاب مؤلفين لإنجازٍ كتب للجيب. لا يذكر الموقع ما حدث لمشروع الاستكتاب هذا، وإذا كانت الكتب التي صدرت عن البرنامج هي نتيجة الاستكتاب فيجب إعادة النظر في مواضيعها تماشيًا مع النقطة الثالثة المبينة أدناه، وإن لم يصدر شيء من الاستكتاب حتى الآن فيمكن التخطيط لمشاريع كتبٍ ناجحة يُستكتب من أجلها الكتّاب العمانيون، أدباء كانوا أو باحثين أو صحفيين. ولا بد لمن يتصدى لهذا الأمر أن يعرف سوق الكتب جيدًا في الدول العربية حتى يختار ما يناسب وما يحقق الربح و/أو الانتشار. ولا بدّ له من أن يجيد اقتناص الفرص التأليفية كإقناع شخصيات عامة بتأليف كتب. مثلا، يُمكن لشخصيةٍ سياسية كمعالي يوسف بن علوي أن يكتب كتابًا سياسيًا ناجحًا، ويُمكن لشخصيةٍ رياضية مثل علي الحبسي أن يكتب في المستقبل سيرة شائقة، ويمكن للأديب أحمد الفلاحي أن يكتب ذكرياتٍ مثيرة للاهتمام عن مثقفي الخليج في الستينيات والسبعينيات، هذا بالإضافة إلى العديد من الباحثين والأكاديميين العمانيين الذين يمكنهم تأليف كتبٍ من وحي تخصصاتهم للقارئ العام. وفي حال تبنى البرنامج الوطني لدعم الكتاب سياسة صارمة "نخبوية" في اختيار مواضيع الكتب نظرًا لطبيعته الرسمية، يُمكن تعزيز المشروع بجهةٍ خاصة.
ثانيًا: صِناعة المؤلف. الكتابة في واقع الأمر حتى الأدبية منها لا تعتمد كليًا على "الوحي" و "الإلهام"، وإنما على مهارات "الصَنعة". هناك الآن عشرات الكتب والدورات التدريبية في هذا المجال، ويُمكن الاستفادة منها في تأهيل جيلٍ من الكتّاب المتمكنين من صنعتهم. وهذا لا يلغي بالتأكيد ضرورة وجود مَلَكة الكتابة، إلا أنّ الكاتب المحترف بحاجة إلى مهارات إضافية في أساليب الكتابة وطرق البحث وإدارة الوقت، الخ.
ثالثًا: استهداف القارئ العربي. المتتبع للإصدارات العمانية (غير الأدبية) يُلاحظ انحصار أغلبها على المواضيع المتعلقة بعُمان في شتى المجالات، ولذلك فقارئها يكون في العادة عُمانيًا أو مهتمًا بالشأن العماني. ويجدر القول إنّ هذه ظاهرة تنسحب أيضًا على الترجمة(1). وفي القائمة التي توردها مدوّنة "أكثر من حياة" للكتب العمانية (غالبًا الصادرة عن دور نشر عربية) يتبيّن أنّ هناك ثلاثة كتب فقط لا تتعلق بعمان من الكتب (غير الأدبية) العديدة التي صدرت في نهاية 2011/بداية 2012(2). في حقيقة الأمر هذه ظاهرة تستحق إفراد دراسة مطوّلة مستقلة للوقوف على العوامل التي تدفع العمانيين إلى حصر أنفسهم في التأليف أو الترجمة فيما يتعلق بعمان فقط، إلا فيما ندر. وهكذا فإنّ انتشار الكتاب والكاتب العماني سيتطلب في المرحلة المقبلة توجيه الجهد نحو التأليف في مواضيع ثقافية وفكرية عامة تهمّ القراء في كل مكان(3).
رابعًا: استغلال الكتب العمانية التي أثبتت نجاحها في الخارج. كتاب "عين وجناح" لمحمد الحارثي فاز بجائزة ابن بطوطة للرحلة عام 2003، ومجموعة "الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة" لسليمان المعمري فازت بجائزة يوسف إدريس للقصة القصيرة عام 2007، ورواية "الأشياء ليست في أماكنها" لهدى الجهوري فازت بجائزة الرواية في مسابقة الشارقة للإبداع العربي عام 2008، ومسرحية "ما حدث بعد ذلك" لهلال البادي فازت بجائزة الهيئة العربية للمسرح عام 2009، وروايتا "تبكي الأرض يضحك زحل" و"سيدات القمر" لعبدالعزيز الفارسي وجوخة الحارثي تأهلتا لجوائز روائية عربية رفيعة المستوى. هذه فرصٌ ذهبية لم تُستغل كما يجب، فكان يمكن للمؤسسات الثقافية العمانية اقتناء نسخ هذه الكتب ثم إصدار طبعةٍ جديدة عن دورٍ معروفة تحمل على غلافها عبارات تسويقية مثل "فائز بجائزة ابن بطوطة" أو "الرواية الفائزة بجائزة الشارقة" الخ، وكان ذلك كفيلا بزيادة مبيعاتها. ولم يكن اختيار المؤسسة الثقافية صائبًا حين أصدرت طبعة جديدة من رواية هدى الجهوري لا تحمل إشارة على الغلاف إلى فوز الرواية، ولم تصدر عن دار الساقي أو الآداب مثلا وإنما عن "كتاب نزوى" الذي يشتكي العمانيون أساسًا من سوء توزيعه في عمان نفسها.
خامسًا: الترويج للكتاب والكاتب العماني محليًا. ولا يُقصد من ذلك مجرد توفير نسخٍ من الكتاب العماني في المكتبات العامة والتجارية-فتلك مرحلة مبدئية يجب تجاوزها سريعًا- بل إبراز المُنتَج الثقافي العماني الجيد وتحبيب القرّاء فيه، وهو أمرٌ شديد الأهمية. في حواراتٍ مع طلاب في مؤسسات التعليم العالي في عُمان، وفي نقاشاتٍ عبر الإنترنت، ترددت جملة "ما أقرا للكتّاب العمانيين"، وذلك إما عن عدم معرفة بهم، أو إشارة إلى "الترفع" عنهم. وفي مقالٍ حول الكتاب العماني يستشهد (د. زكريا المحرمي) بدراسةٍ أجرتها باحثة في عُمان أظهرت أنّ "16% من فتيات المرحلة الثانوية لا يحبذن اقتناء الكتاب العماني! وأنّ 34% [من عينة البحث] يعتبرون عنوان الكتاب العماني غير جذاب، وهذه النسبة تتضاعف عند طالبات المرحلة الثانوية إلى 50%، و 41% غير راضين عن تصميم الكتاب العماني..."(4). هذه المؤشرات على محدوديتها تمثل حالة سلبية خطيرة. ليس شرطًا بطبيعة الحال لبدء نجاح الكاتب أن يكون مقدرًا في بلده، بيد أنّ هذا التقدير خطوة هامة لتسويقه بصورةٍ أسرع، كما أنّ الكاتب يحتاج إلى تشجيعٍ من محيطه القريب كي يزداد عطاؤه. عند تصفّح المنتديات الثقافية السعودية أو الكويتية (أو حتى حسابات التويتر) يُلاحظ المرء إشاراتٍ إيجابية كثيرة ومتكررة إلى كتبٍ سعودية وكويتية، سواء على مستوى النخبة أو العامة، مما يشجّع على تصفح تلك الكتب على أقل تقدير. ليس المطلوب اتباع شوفينية لتمجيد الإصدارات العمانية لمجرد كونها عمانية، وإنما المطلوب انتقاء الجيد وإبرازه بما يستحق.
سادسًا: ترويج الكتاب خارجيًا. والمسؤولية هنا تقع بطبيعة الحال على الناشر الذي يُفترض به أن يروّج "سلعته" جيدًا، إلا أنّ المؤلفين أنفسهم أو المؤسسة الرسمية (كالنادي الثقافي) يُمكن أن تتعاون مع الناشر. أما تحديد الطُرق الأنجع لترويج الكتاب فيعتمد على دراسة أنماط "الاستهلاك" في سوق الكتب. تفتقر الدول العربية إلى مثل هذه الدراسات، ولكن يمكن الاستشهاد بدراسةٍ غربية هنا للتمثيل لا أكثر، وهي دراسة أعدّها موقع "Book Facts Online" عام 2006، وتبيّن من خلالها أنّ دوافع شراء الكتب في بريطانيا ليست في الحقيقة كما نتصور؛ إذ جرى الاعتقاد بأنّ عروض الكتب في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وترشيحات الكتب لها الدور الأكبر في حثّ القارئ على اقتناء الكتاب. أظهرت الدراسة أنّ النسبة الأعلى كانت لتوفر الكتاب في المكتبات (35%) وبعد ذلك اسم المؤلف (14%) ثم وجود معلومات تخصصية في الكتاب (13%)، في حين حققت ترشيحات الكتب (10%)، ولم يصل تأثير عروض الكتب في المجلات والصحف أكثر من (4%) وذِكر الكتب في التلفاز والإذاعة (1%)(5).
تلك أمثلة لأبرز القواعد التي يمكن أن تستند عليها الاستراتيجية الوطنية لصناعة الكتاب العماني، والأمرُ ولا شكّ يتطلب نقاشًا جادًا هادفًا بين جميع الأطراف ذات العلاقة من مسؤولين وكتّاب وناشرين وخبراء تسويق وباحثين. وأخيرًا، فإن هذا المقال لا يسعى إلى إنكار ما يُبذل من جهود طيبة لدعم الكتاب العماني كان آخرها إطلاق جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، وإنما يهدف إلى تشجيعها والبناء عليها وتعزيزها بأفكار جديدة.
الإحالات
1- زكريا المحرمي (2008) "هموم الكتاب العماني"، منشور على موقعه الإلكتروني: http://www.drzak.net/index/?p=47
2- الغالبية العظمى من الكتب المترجمة (غير الأدبية) التي أنجزها عمانيون تتعلق بعمان، باستثناء كتاب "ملاحظات في السينماتوغرافيا" بترجمة عبدالله حبيب، و "إعلام جديد..سياسة جديدة" بترجمة عبدالله الكندي. للاستزادة انظر: أحمد حسن المعيني (2010) "الترجمة في عصر النهضة العمانية" في كتاب "وفاء الكلمة"، عن لجنة معرض مسقط للكتاب.
3- كتاب "تحليقات طفولية في فضاء الكتابة الإبداعية: دراسة تحليلية وفنية لقصص الأطفال" لليلى البلوشي، وكتاب "مساجلات نقدية" لعبدالله العليان، وكتاب "ثقافة الطفل بين الهوية والعولمة" لعزيزة الطائي. هذا الإحصاء غير دقيق بالطبع، ولكنه يبقى مؤشرًا.
4- من الأمثلة على ذلك: "مساءلات سينمائية" لعبدالله حبيب، و "دراسات في الاستعارة المفهومية" لعبدالله الحراصي، و"نافذة على القصة القصيرة الفارسية الحديثة" ترجمة وإعداد د. إحسان صادق اللواتي، و "المعنى خارج النص" للدكتورة فاطمة الشيدي، و "الاستشراق بين الإنصاف والإجحاف" لعبدالله العليان.
5- Giles Clark and Angus Phillips (2008) Inside Book Publishing, London: Routledge, p. 169.
لنشر الموضوع على الفيس بوك والتويتر
ضعف انتشار الكِتاب العماني: رأي في المشكلة واقتراحٌ للحل
أحمد حسن المعيني
في حوارٍ قصير على "التويتر" أشار الناقد السعوديّ (محمد العبّاس) إلى أنّ "عُمان تمتلك منتجها الثقافي اللافت، ولكن لديكم مشكلة في تصدير المنتج وتسويقه"، وأقرَّه على ذلك أكثر من شخصٍ عماني بينهم كاتب هذه السطور، فكان أن أثار ذلك الحوار بعض الأفكار التي أطرحها في هذا المقام. والسؤال الأساسي الذي تنطلق منه المناقشة هو: لماذا لا يحقق الكتاب العماني انتشارًا وحضورًا بارزًا على المستوى الخليجي أو العربي؟
يرى البعض أنّ أحد أسباب ذلك هو قلة المؤلفين والكتب العمانية مقارنة بالدول الأخرى، خاصة تلك التي تصدر عن كبريات دور النشر العربية. وهذه الملاحظة صائبة في تفسيرها للوضع خلال العقود الماضية، إلا أنّ الأمر قد تغير كثيرًا في السنين الأخيرة، فمعرض الكتاب الفائت خير شاهدٍ على وفرة الإصدارات العمانية الجديدة في عدة مجالات وعن مختلف دور النشر في العالم العربي. وبعد أن كان أغلب المؤلفين العمانيين يطبعون كتبهم بأنفسهم، توجد الآن عدّة قنواتٍ لنشر الكتاب العماني في داخل عُمان كإصدارات وزارة التراث والثقافة، أو عبر دورٍ عربية كبرى كمشروع البرنامج الوطني لدعم الكتاب، والجمعية العمانية للكتاب والأدباء، ومشروع أقاصي، وحتى المبادرات الشخصية من بعض المواقع الإلكترونية العمانية مثل سبلة عمان ومجلة الفلق ومدوّنة ساعي البريد.
ويرى البعض أيضًا أنّ أحد الأسباب هو غياب دار نشرٍ عمانية تقترب في مستواها من دور النشر العربية الكبيرة من حيث إقبال المؤلفين، وتنوّع الإصدارات، ومستوى التوزيع، وجودة الإخراج، الخ. يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أنّ وجود مثل هذه الدار سوف يسوّق اسم الثقافة العمانية وبالتالي المثقف العماني وإصداراته. وبرغم ما في هذا الرأي من صواب، إلا أنّ وجود الدار ليس عاملا حاسمًا أو ذا تأثير كبير؛ فكبار الكتّاب الخليجيين المعروفين الآن على المستوى العربي لم يذع صيتهم من خلال دور نشرٍ في بلادهم. في الواقع لم توجد دور نشرٍ خليجية بارزة إلا منذ عهدٍ قريب فقط (كالعبيكان في السعودية ومدارك في الإمارات والدوسري في البحرين).
وهناك من يرى أنّ المؤلف العماني يفتقر إلى الثقة بنفسه وبقدرته على المنافسة، وهذا رأيٌ لا يستند على دليلٍ موضوعي، ولا يكاد يتكئ إلا على التواضع المعهود لدى "الشعب" العماني. كما أنّ فاقد الثقة لا ينشر إصداراته عن دور نشرٍ كبرى (مثل دار الآداب، ومركز دراسات الوحدة العربية، والجمل، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، ومؤسسة الانتشار العربي، وغيرها). إنّ المشكلة الحقيقية لا تبدو في نقص المؤلفين أو الإصدارات أو الثقة، ولا غياب دار النشر العمانية، فهذه قد يُنظر إليها على أنها تمثلات للمشكلة وليست أسبابها. ما أقترحه هنا كتشخيصٍ للمشكلة هو غياب "صِناعة الكتاب"، والمقصود بهذا المصطلح وجود منهجٍ واضح ومدروس لإنتاج الكتاب العماني الناجح وتسويقه.
رأي في الحل
فيما يلي بعض الملامح التي يمكن أن يتصف بها منهج "صناعة الكتاب".
أولا: صناعة مشاريع الكتب. إنّ للناشر دورًا هامًا لا يُلتفت إليه عادة في تأريخ الكتابة والنشر، ألا وهو انتقاء أفكارٍ للكتب أو "اختراعها"؛ فالناشر الناجح لا يكتفي بانتظار ما يجود به الكتّاب من مخطوطات، وإنما هو الذي يقترح عليهم أفكارًا مميزة للتأليف. الكاتب يُتقن صَنعة الكتابة والتأليف، بينما الناشر هو الأقرب إلى سوق الكتاب وذائقة القرّاء ومعرفة الفجوة التي يُمكن سدّها بكتابٍ جيد. يحدث هذا دائمًا في دور النشر الغربية، حيث يدرس الناشر سوقًا محددة في مجالٍ محدد ويستنتج المؤلفات التي ستلقى قبولا في تلك السوق، فيقوم باستكتاب كاتبٍ ما لإنجاز الكتاب. دار النشر ليست مؤسسة ثقافية خيرية وإنما شركة تجارية، وعلى الناشر أن يسعى إلى توفير الإصدارات التي تحقق الأرباح. يذكر موقع النادي الثقافي أنّ البرنامج الوطني لدعم الكتاب يطرح "فكرة الاستكتاب في محاور معينة ذات أهمية قصوى أو ندرة في التأليف، حتى يسهم البرنامج في سدّ حاجة معرفية تتسم بالضرورة البالغة"، ولعلنا نذكر إعلان البرنامج قبل حوالي عامين عن رغبته في استكتاب مؤلفين لإنجازٍ كتب للجيب. لا يذكر الموقع ما حدث لمشروع الاستكتاب هذا، وإذا كانت الكتب التي صدرت عن البرنامج هي نتيجة الاستكتاب فيجب إعادة النظر في مواضيعها تماشيًا مع النقطة الثالثة المبينة أدناه، وإن لم يصدر شيء من الاستكتاب حتى الآن فيمكن التخطيط لمشاريع كتبٍ ناجحة يُستكتب من أجلها الكتّاب العمانيون، أدباء كانوا أو باحثين أو صحفيين. ولا بد لمن يتصدى لهذا الأمر أن يعرف سوق الكتب جيدًا في الدول العربية حتى يختار ما يناسب وما يحقق الربح و/أو الانتشار. ولا بدّ له من أن يجيد اقتناص الفرص التأليفية كإقناع شخصيات عامة بتأليف كتب. مثلا، يُمكن لشخصيةٍ سياسية كمعالي يوسف بن علوي أن يكتب كتابًا سياسيًا ناجحًا، ويُمكن لشخصيةٍ رياضية مثل علي الحبسي أن يكتب في المستقبل سيرة شائقة، ويمكن للأديب أحمد الفلاحي أن يكتب ذكرياتٍ مثيرة للاهتمام عن مثقفي الخليج في الستينيات والسبعينيات، هذا بالإضافة إلى العديد من الباحثين والأكاديميين العمانيين الذين يمكنهم تأليف كتبٍ من وحي تخصصاتهم للقارئ العام. وفي حال تبنى البرنامج الوطني لدعم الكتاب سياسة صارمة "نخبوية" في اختيار مواضيع الكتب نظرًا لطبيعته الرسمية، يُمكن تعزيز المشروع بجهةٍ خاصة.
ثانيًا: صِناعة المؤلف. الكتابة في واقع الأمر حتى الأدبية منها لا تعتمد كليًا على "الوحي" و "الإلهام"، وإنما على مهارات "الصَنعة". هناك الآن عشرات الكتب والدورات التدريبية في هذا المجال، ويُمكن الاستفادة منها في تأهيل جيلٍ من الكتّاب المتمكنين من صنعتهم. وهذا لا يلغي بالتأكيد ضرورة وجود مَلَكة الكتابة، إلا أنّ الكاتب المحترف بحاجة إلى مهارات إضافية في أساليب الكتابة وطرق البحث وإدارة الوقت، الخ.
ثالثًا: استهداف القارئ العربي. المتتبع للإصدارات العمانية (غير الأدبية) يُلاحظ انحصار أغلبها على المواضيع المتعلقة بعُمان في شتى المجالات، ولذلك فقارئها يكون في العادة عُمانيًا أو مهتمًا بالشأن العماني. ويجدر القول إنّ هذه ظاهرة تنسحب أيضًا على الترجمة(1). وفي القائمة التي توردها مدوّنة "أكثر من حياة" للكتب العمانية (غالبًا الصادرة عن دور نشر عربية) يتبيّن أنّ هناك ثلاثة كتب فقط لا تتعلق بعمان من الكتب (غير الأدبية) العديدة التي صدرت في نهاية 2011/بداية 2012(2). في حقيقة الأمر هذه ظاهرة تستحق إفراد دراسة مطوّلة مستقلة للوقوف على العوامل التي تدفع العمانيين إلى حصر أنفسهم في التأليف أو الترجمة فيما يتعلق بعمان فقط، إلا فيما ندر. وهكذا فإنّ انتشار الكتاب والكاتب العماني سيتطلب في المرحلة المقبلة توجيه الجهد نحو التأليف في مواضيع ثقافية وفكرية عامة تهمّ القراء في كل مكان(3).
رابعًا: استغلال الكتب العمانية التي أثبتت نجاحها في الخارج. كتاب "عين وجناح" لمحمد الحارثي فاز بجائزة ابن بطوطة للرحلة عام 2003، ومجموعة "الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة" لسليمان المعمري فازت بجائزة يوسف إدريس للقصة القصيرة عام 2007، ورواية "الأشياء ليست في أماكنها" لهدى الجهوري فازت بجائزة الرواية في مسابقة الشارقة للإبداع العربي عام 2008، ومسرحية "ما حدث بعد ذلك" لهلال البادي فازت بجائزة الهيئة العربية للمسرح عام 2009، وروايتا "تبكي الأرض يضحك زحل" و"سيدات القمر" لعبدالعزيز الفارسي وجوخة الحارثي تأهلتا لجوائز روائية عربية رفيعة المستوى. هذه فرصٌ ذهبية لم تُستغل كما يجب، فكان يمكن للمؤسسات الثقافية العمانية اقتناء نسخ هذه الكتب ثم إصدار طبعةٍ جديدة عن دورٍ معروفة تحمل على غلافها عبارات تسويقية مثل "فائز بجائزة ابن بطوطة" أو "الرواية الفائزة بجائزة الشارقة" الخ، وكان ذلك كفيلا بزيادة مبيعاتها. ولم يكن اختيار المؤسسة الثقافية صائبًا حين أصدرت طبعة جديدة من رواية هدى الجهوري لا تحمل إشارة على الغلاف إلى فوز الرواية، ولم تصدر عن دار الساقي أو الآداب مثلا وإنما عن "كتاب نزوى" الذي يشتكي العمانيون أساسًا من سوء توزيعه في عمان نفسها.
خامسًا: الترويج للكتاب والكاتب العماني محليًا. ولا يُقصد من ذلك مجرد توفير نسخٍ من الكتاب العماني في المكتبات العامة والتجارية-فتلك مرحلة مبدئية يجب تجاوزها سريعًا- بل إبراز المُنتَج الثقافي العماني الجيد وتحبيب القرّاء فيه، وهو أمرٌ شديد الأهمية. في حواراتٍ مع طلاب في مؤسسات التعليم العالي في عُمان، وفي نقاشاتٍ عبر الإنترنت، ترددت جملة "ما أقرا للكتّاب العمانيين"، وذلك إما عن عدم معرفة بهم، أو إشارة إلى "الترفع" عنهم. وفي مقالٍ حول الكتاب العماني يستشهد (د. زكريا المحرمي) بدراسةٍ أجرتها باحثة في عُمان أظهرت أنّ "16% من فتيات المرحلة الثانوية لا يحبذن اقتناء الكتاب العماني! وأنّ 34% [من عينة البحث] يعتبرون عنوان الكتاب العماني غير جذاب، وهذه النسبة تتضاعف عند طالبات المرحلة الثانوية إلى 50%، و 41% غير راضين عن تصميم الكتاب العماني..."(4). هذه المؤشرات على محدوديتها تمثل حالة سلبية خطيرة. ليس شرطًا بطبيعة الحال لبدء نجاح الكاتب أن يكون مقدرًا في بلده، بيد أنّ هذا التقدير خطوة هامة لتسويقه بصورةٍ أسرع، كما أنّ الكاتب يحتاج إلى تشجيعٍ من محيطه القريب كي يزداد عطاؤه. عند تصفّح المنتديات الثقافية السعودية أو الكويتية (أو حتى حسابات التويتر) يُلاحظ المرء إشاراتٍ إيجابية كثيرة ومتكررة إلى كتبٍ سعودية وكويتية، سواء على مستوى النخبة أو العامة، مما يشجّع على تصفح تلك الكتب على أقل تقدير. ليس المطلوب اتباع شوفينية لتمجيد الإصدارات العمانية لمجرد كونها عمانية، وإنما المطلوب انتقاء الجيد وإبرازه بما يستحق.
سادسًا: ترويج الكتاب خارجيًا. والمسؤولية هنا تقع بطبيعة الحال على الناشر الذي يُفترض به أن يروّج "سلعته" جيدًا، إلا أنّ المؤلفين أنفسهم أو المؤسسة الرسمية (كالنادي الثقافي) يُمكن أن تتعاون مع الناشر. أما تحديد الطُرق الأنجع لترويج الكتاب فيعتمد على دراسة أنماط "الاستهلاك" في سوق الكتب. تفتقر الدول العربية إلى مثل هذه الدراسات، ولكن يمكن الاستشهاد بدراسةٍ غربية هنا للتمثيل لا أكثر، وهي دراسة أعدّها موقع "Book Facts Online" عام 2006، وتبيّن من خلالها أنّ دوافع شراء الكتب في بريطانيا ليست في الحقيقة كما نتصور؛ إذ جرى الاعتقاد بأنّ عروض الكتب في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وترشيحات الكتب لها الدور الأكبر في حثّ القارئ على اقتناء الكتاب. أظهرت الدراسة أنّ النسبة الأعلى كانت لتوفر الكتاب في المكتبات (35%) وبعد ذلك اسم المؤلف (14%) ثم وجود معلومات تخصصية في الكتاب (13%)، في حين حققت ترشيحات الكتب (10%)، ولم يصل تأثير عروض الكتب في المجلات والصحف أكثر من (4%) وذِكر الكتب في التلفاز والإذاعة (1%)(5).
تلك أمثلة لأبرز القواعد التي يمكن أن تستند عليها الاستراتيجية الوطنية لصناعة الكتاب العماني، والأمرُ ولا شكّ يتطلب نقاشًا جادًا هادفًا بين جميع الأطراف ذات العلاقة من مسؤولين وكتّاب وناشرين وخبراء تسويق وباحثين. وأخيرًا، فإن هذا المقال لا يسعى إلى إنكار ما يُبذل من جهود طيبة لدعم الكتاب العماني كان آخرها إطلاق جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، وإنما يهدف إلى تشجيعها والبناء عليها وتعزيزها بأفكار جديدة.
الإحالات
1- زكريا المحرمي (2008) "هموم الكتاب العماني"، منشور على موقعه الإلكتروني: http://www.drzak.net/index/?p=47
2- الغالبية العظمى من الكتب المترجمة (غير الأدبية) التي أنجزها عمانيون تتعلق بعمان، باستثناء كتاب "ملاحظات في السينماتوغرافيا" بترجمة عبدالله حبيب، و "إعلام جديد..سياسة جديدة" بترجمة عبدالله الكندي. للاستزادة انظر: أحمد حسن المعيني (2010) "الترجمة في عصر النهضة العمانية" في كتاب "وفاء الكلمة"، عن لجنة معرض مسقط للكتاب.
3- كتاب "تحليقات طفولية في فضاء الكتابة الإبداعية: دراسة تحليلية وفنية لقصص الأطفال" لليلى البلوشي، وكتاب "مساجلات نقدية" لعبدالله العليان، وكتاب "ثقافة الطفل بين الهوية والعولمة" لعزيزة الطائي. هذا الإحصاء غير دقيق بالطبع، ولكنه يبقى مؤشرًا.
4- من الأمثلة على ذلك: "مساءلات سينمائية" لعبدالله حبيب، و "دراسات في الاستعارة المفهومية" لعبدالله الحراصي، و"نافذة على القصة القصيرة الفارسية الحديثة" ترجمة وإعداد د. إحسان صادق اللواتي، و "المعنى خارج النص" للدكتورة فاطمة الشيدي، و "الاستشراق بين الإنصاف والإجحاف" لعبدالله العليان.
5- Giles Clark and Angus Phillips (2008) Inside Book Publishing, London: Routledge, p. 169.
3 comments:
أفكار وروئ رائعة أخي أحمد عسى أن تجد طريقها إلى الواقع قريبا إن شاء الله
الجميل انها رؤيا متكاملة فقط نحتاج الى تبنيها كمشروع والعمل به بسرعة تتناسب مع روح العصر.
جزاك الله خيرا يا أبا ماجد
طرح وافعي وقترحات بناءة. شكرا احمد
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.