فرغتُ قبل قليل من قراءة كتاب "الصراطات المستقيمة: قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية" لمؤلفه (عبدالكريم سروش)، والصادر عن منشورات الجمل عام 2009 بترجمة أحمد القبانجي.
[لا بدّ من توضيح أمرٍ هام أولا، وهو أنّ الكتاب ليس بحثًا واحدًا مركزًا على هذا الموضوع، وإنما هو مجموعة مقالات انتقاها المترجم أو الناشر من عدّة مقالات من كتب ومحاضرات لعبدالكريم سروش، وموضوع التعددية الدينية يظهر في المقالة الأولى ثم مناقشة الردود عليها، ثم المقالة الثانية (أي حوالي أقل قليلا من نصف الكتاب). أرى أنّ هذا الانتقاء تحت عنوان الكتاب الحالي غير موفّق لسببين: أولهما تضليل القارئ الذي يعتقد بأنّه سيجد نقاشا مطولا في الكتاب بأكمله لنظرية التعدد الديني، وثانيًا لأنّ المترجم/الناشر لا يوضّح معيار اختياره لهذه المقالات دون غيرها وضمّها في كتابٍ واحد، فهي وإن كانت تقدّم فكر سروش بشكلٍ جيد، إلا أنها تفتقر إلى الاتساق والوحدة في الموضوع.]
على أية حال، فالمقالة الأساسية في الكتاب "قراءة في البلورالية الدينية" ممتعة وهامة جدًا ويثير فيها (سروش) الكثير من الأسئلة. يطرح المؤلف القبول بتعدد الأديان والتسامح والتعايش بينها لأن هذا التعدد حتميّ، فلكل ديانة أدلة وحجج يؤمن بها أصحابها ويرونها أقوى من أدلة الأديان الأخرى، وهم محقّون في اعتناقهم لدينهم، ويرفض المؤلف الفكرة التي "ترى أنّ الحقانية والهداية والسعادة تكمن في اتباع دينٍ معين، وأن المخالفين والمنكرين لهذا الدين يتسمون بالعناد أو من المستضعفين والمعذورين، وأنّ كثرة الأديان توصد باب السعادة أمام البشر وتحجب أنوار الهداية عنهم" (ص6). ويستعرض المؤلف عشرة أركان تستند عليها مقولة التعددية الدينية. في الركن الأول يقول إنّ فهمنا للنصوص الدينية متعدد بالضرورة، لذا علينا الاعتراف بهذه التعددية واجتناب تصوّر امتلاكنا للحقيقة الوحيدة المطلقة. ويقول مثلا في الركن السادس أننا إذا قلنا بأنّ الله عز وجل خصّ طائفة معينة (ولنقل اليهود مثلا) بالهداية إلى "الدين الحقّ"، أي أن كلّ البشر غير اليهود محرومون من الهداية الإلهية، إذن فكيف يتجسد اسم الله "الهادي" على أرض الواقع؟ لذا يحاول (سروش) تقديم تصوّر آخر عن الهداية. في الحقيقة تتراوح الأركان العشرة في قوة حجتها، وشخصيًا وجدت بعضها غير مقنع بما فيه الكفاية. لا يمكن استعراض كل ما جاء في المقالة هنا، لكنّها بالتأكيد تثير الكثير من الأسئلة. فمثلا: كيف ننظر إلى مفهوم الكفر والالتزام الديني في ضوء هذه النظرية؟ سروش لا يرى أنّ القبول بالتعددية الدينية يستلزم التنازل عن إيمان المرء بدينه، كما أنه لا يتفق مع إطلاق حكم الكفر هكذا على الآخرين؛ فالكفر كما يقول سروش موقف يتخذه المرء من الله، وهناك الكثير من خارج الديانة (الإسلام مثلا) لم يعرفوا عن الإسلام أو لم يفكروا أصلا في العقائد أو لم يقتنعوا بالإسلام، فهؤلاء ليسوا كفارا بالمعنى الواقعي، وإنما نطلق عليهم هذا الوصف لتمييزهم عن من هم داخل دائرة الدين.
يقول سروش:
"ومع ذلك فإن مقولة الصراطات المستقيمة لا تدعي أن جميع الفرق والمذاهب على حق وأن جميع ما يقولونه يمثل الحقيقة والصواب، بل تقول، أولا: إن مقولة الهداية تفترق عن مقولة الحقّانية التامّة. وثانيا: إن كثيرا من الاختلافات واقعة بين أشكال الحق غير الخالص لا بين الحق والباطل. وثالثا: إن الحقائق متراكمة ومتنوعة وكثيرة، وأن السر في كثرة وتعدد المذاهب والفرق ليس خواء هذه المذاهب والفرق بل حيرة الناس بين الحقائق الكثيرة...ورابعًا: كما أنّ العقل ربما يتورط في طوفان العواطف ودوامة الشرور، فكذلك الدين قد يبتلى بجعل الجاعلين وجهل الجاهلين وتحريف المحرفين، ولذلك فما يصل إلى الناس من نور الهداية الإلهية عبارة عن الحد الأقل لها لا الحد الأكثر لها" (ص 65).
وفي إجابته على سؤال "إذن لا بد من تعريف الحق، هل تريدون منه المطابقة للواقع أو شيئا آخر؟" يقول سروش: "إن الحق على اي حال هو ما طابق الواقع في كلا المعنيين، إلا أن الحق في الأديان يلازم الهداية أيضًا، فعندما نقول إن هذا الدين حق لزيد، يعني "الدين الهادي لزيد" لا أنّ هذا الدين باطل وأتباعه ضالون أو معذورون". (ص103)
مما راقني في الكتاب أيضًا مقالة "تجديد الإيمان" والتي يفلسف فيها سروش معنى عيد الأضحى بأسلوب رائع من خلال تحليل معنى الإيمان.
هي قراءة انطباعية سريعة فقط للكتاب، وفي الحقيقة الأمر يستلزم قراءة كتبٍ أخرى تمثل ردود المعارضين أو تعقيبات الموافقين بشيء من التفصيل، خاصة من وجهات نظر أخرى غير الصوفية والفلسفية التي استعان بها سروش. في كل الأحوال، أجدّ الجزء الأول من الكتاب في غاية الأهمية ويستحق القراءة بكل تأكيد.
1 comments:
قرأت له بسط التجربة النبوية ,وفتح لي أفاق كبيرة وتساؤلات كثيرة ..أعتقد بأن كتاباته تستحق الدراسة وقراءة واحدة لها لا تكفي بكل تأكيد
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.