(نُشر هذا المقال لأول مرة في العدد الحادي عشر من ملحق "نون" الذي تصدره الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بالتعاون مع جريدة الشبيبة)
رسالة إلى كانِزِي الكتب
أحمد حسن المعيني
عزيزي القارئ، هل أنت كانزٌ للكتب؟ هناك تجربة بسيطة لمعرفة ذلك: قفْ أمام مكتبتك الشخصية في منزلك، وقلّب ناظريك فيها بحثًا عن كتبٍ لم تعجبك، أو كتبٍ لن تقرأها مرة أخرى، فإن وجدتَ عددًا كبيرًا منها ولم تُطاوعكَ نفسك أن تتخلص منها، فأنتَ كانزُ كتبٍ من الطراز الأول!
هناك فئة من الناس يعشقون الكتب وأغلفتها ورائحتها وملمسها، يلاحقونها في المكتبات التجارية وأكشاك الكتب المستخدمة ومعارض الكتب ومواقع الكتب الإلكترونية (وقد يسرقونها من أصدقائهم ومعارفهم)، يصرفون مئات الريالات ولا يبالون. وحين يجدون كتبًا مجانية، أو معروضة بأسعارٍ زهيدة فذلك لهم عيدٌ سعيد لا يماثله عيد. تجدهم يشترون الأرفف ويصنّفون كتبهم وربما يجلّدونها، ويوقّعون بأسمائهم عليها مع تاريخ الشراء ومكانه. وأنا هنا لا أتحدث عن الذين يحبون القراءة والكتب، فهو أمرٌ محمود أشجع الجميع عليه، إنما حديثي عن "تملّك الكتب" وكنزها في مكتبات شخصية ضخمة، وهو ما أودّ مساءلته وأشكلته (أي أبيّن مشكلته). وأنا حينما أتوجه إليك عزيزي القارئ بهذا الحديث لا أزكّي نفسي، بل أقرّ لك أنني من هذه الفئة التي ذكرتها أعلاه، وفوق ذلك أعترف بأنني أحيانًا أعالج حالات الملل والكآبة بالتسوق في المكتبات! الأمرُ وما فيه أنني بدأتُ مؤخرًا بمساءلة هذا الهَوَس، وأدعوك إلى التفكير فيه معي، علّنا نُشفى منه. هل تجميع الكتب وكنزها أمرٌ جيد؟ القضية في نظري هي ليست ما إذا كان جيدًا أم غير جيد، وإنما في الوهم الذي اكتسح الكثير منا بأن ذلك هو الوضع المثالي الذي يجب أن يكون عليه المثقفون، خاصة عندما نقرأ عن مكتبات مشاهير المثقفين والأعداد الهائلة من الكتب التي يملكونها (مثل أنيس منصور الذي تحتوي مكتبته على أكثر من سبعين ألف كتاب).
هل كل الكتب تُجمع؟
في عام 2004 عندما سافرتُ إلى بريطانيا للدراسة وبدأتُ في شراء الكتب من موقع "أمازون" الشهير، أدهشني ذلك العدد الهائل من الأشخاص-لا المكتبات الصغيرة- الذين يعرضون كتبهم للبيع منفردة، وبصفتي محبًا للكتب مهووسًا بها استنكرتُ جدًا أن يبيع أحدهم كتبه، خاصة في بلاد نعرف عنها حب القراءة. كنتُ حتى ذلك الوقت أؤمن أنّ الكتاب إذا دخل المكتبة الشخصية لا يخرج منها إلا في حالة السرقة أو الاستعارة "المؤبدة" أو الاضطرار إلى بيع المكتبة برمتها لسببٍ أو لآخر. لكنني فهمتُ لاحقًا أنّ بيع الكتب الشخصية أمرٌ طبيعي جدًا ولا يتعارض أبدًا مع حب القراءة والكتب، وبأنّ الناس هناك يبيعون بعض كتبهم بعد قراءتها، خاصة الروايات التي تُقرأ مرة واحدة للمتعة ثم ينتهي أمرها. ورأيتُ هذا الأمر لاحقًا مع اثنين من المدرّسين الأجانب الذين يعشقون القراءة والكتب، ولكنهما لا يترددان أبدًا في التخلي عن بعض الكتب والروايات. وهكذا بدأتُ أتفهم أنّ هناك كتبًا يُحتفظ بها وأخرى لا ضرورة لمراكمتها. (العبارة الأخيرة دليل على بداية شفائي، ففيما مضى ما كنتُ لأتجرأ على قول ذلك، وكنتُ سأعدّه ضربًا من الكفر!)
إذن عزيزي القارئ فالمسألة الأولى التي يتعيّن علينا مناقشتها هي نوعية الكتب التي قد يكون الاحتفاظ بها ضروريًا، فأنا بالطبع لا أدعوك إلى التخلص من جميع كتبك. وبالنظر في مكتبتي الشخصية يمكنني تقسيم ما يمكن الاحتفاظ به إلى خمسة أصناف: (1) المراجع، كالقواميس والموسوعات والتفاسير والكتب المتخصصة التي تُعدّ مرجعًا في موضوعٍ ما. (2) كتب التخصص والاهتمامات البحثية، وهذه من المرجح أنني سأعود إليها من وقتٍ لآخر كي أسترجع معلومة ما أو أكتب بحثًا أو مقالا ونحو ذلك. (3) الكتب النادرة، كطبعةٍ أولى من كتابٍ قديمٍ قيّم أو نسخةٍ من كتاب غير منتشر أو توقف طبعه. (4) الكتب المفضلة، وهذه قد تكون روايات أو دواوين أو دراسات راقتني جدًا وأحبّ أو أنوي العودة إليها من وقتٍ لآخر. (5) كتب الذكرى، وهي كتبٌ مهداة لي من المؤلفين أنفسهم أو غيرهم، أو كتبٌ تذكّرني بحدثٍ ما أو مكان أو شخصٍ أو مناسبةٍ.
وهل توجد في مكتباتنا الشخصية كتبٌ لا تندرج تحت الأصناف الخمسة السابقة؟ بكل تأكيد، وإليك عزيزي القارئ أمثلة من مكتبتي الشخصية. لو نظرتُ في قسم الروايات، سأجد روايات قرأتها ولم تعجبني، وأخرى لا بأس بها ولكنني لا أنوي إعادة قراءتها، وأخرى مُترجمة إلى الإنجليزية من لغاتٍ أخرى ولكنني أفضل قراءة ترجماتها العربية. كما أرى هنا أعمالا كاملة لمؤلفين أريد أن أقرأها "ذات يوم" غير مسمى، وأعمالا "كلاسيكية" أشعر بالذنب والخجل لعدم قراءتها حتى الآن رغم أنني كل يوم وآخر أبدأ في قراءة شيء آخر ولا ألتفت إليها. وهنا أرى كتبًا كنتُ أريد قراءتها عندما اشتريتها ولكنني الآن لا أجد في نفسي أي رغبة في تصفحها. وهنا مجموعة من الكتب "الرديئة" التي قرأت بداياتها ثم سرعان ما تركتها جانبًا، ولا أظنني سأكملها أبدًا. ولو نظرتَ في مكتبتك، عزيزي القارئ، ستجد مثل كتبي تلك. تُرى لماذا جمعتُ هذه الكتب؟
أسباب جمع الكتب
حاولتُ أن أفكر في الأسباب التي دفعتني لجمع هذه الكتب وتخزينها. هل أنا من هواة جمع الكتب؟ إذن لماذا أمرّ على الكثير من الكتب الشهيرة، والكتب رخيصة الثمن، ولا تراودني نفسي لاقتنائها؟ هل هو استغلال لفرصة وجودها في المعارض والمكتبات التجارية السمينة؟ ربما، خاصة في بلدٍ مثل عُمان يعاني شحّ المكتبات (التجارية والعامة) وهزالها، إلا أنّ ذلك يفسّر الجزئية المتعلقة باقتناء الكتب لقراءتها وليس للاحتفاظ بها. هل هي رغبة في تكوين مكتبة شخصية كي يتعلق أطفالي مستقبلا بالكتب والقراءة؟ ولكنّ هؤلاء الأطفال-الذين لم يأتوا بعد- يُمكن أن يكتسبوا حبّ القراءة من مكتبةٍ صغيرة ووالدَين يقرآن باستمرار، ولا يُشترط أن تكون هناك آلاف الكتب في البيت. أعرف الكثير من القرّاء النهمين الذين لم يروا الكتب في بيوتهم إلا لمامًا. هل هي رغبة في الاستفادة من الكتب للكتابة والتدريس والبحث؟ نعم، ولكن ذلك لا يفسّر الاحتفاظ بالكتب التي لا تتعلق بمجالات اهتمامي وتخصصي. هل هي رغبة في إقناع نفسي والآخرين بأنني مثقف؟ أعتقد أنني تجاوزتُ هذه المرحلة منذ زمن. هل يتعلق الأمر بالديكور والمسحة الجمالية التي يوفرها منظر الكتب؟ ربما، وهو أمر مشروع، ولكنّ ذلك لا يبرر مراكمة المزيد من الكتب.
وقفة
لماذا أصرّ على أن أصنع من هذا الموضوع مشكلة؟ لماذا لا أدع الناس تجمع الكتب وتخزنها، ولكل امرئ ما هوى! في الحقيقة لا ضير في أن يكون لدينا بعضٌ من هواة جمع الكتب، فهؤلاء لديهم هواية يمارسونها، ولكنّ ما يقلقني هو أن يعتقد كل قارئ أو مثقف أنّ من واجبه تقديس الكتب وكنزها وعدم التنازل عنها أبدًا. ومما زاد الطين بلة تلك الحكمة "السيئة" التي تندرج تحت الحق الذي يُراد به باطل "أحمق من يعير كتابًا وأكثر حمقًا منه من يعيد الكتاب"، وصار من يقول "أنا لا أعير كتبي أبدًا" رمزًا لعشق الكتب والثقافة! قد تقول عزيزي القارئ أنّ كل إنسانٍ حرٌ في كتبه، وهذا صحيح، ولكنني أنظر إلى الأمر من زاويةٍ أخرى، من زاوية الكتب نفسها. عندما أنظر في مكتبتي أجد الأعمال الكاملة لتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وسعد الله ونوس قابعة هناك، سجينة غرفتي لم يستفد منها أحد غيري-هذا إن أكملتُ قراءتها- لا لشيء إلا لنزعةٍ أنانيةٍ استحوذت عليّ لتملكها.
صحيحٌ أنني عندما أشتري الشيء أمتلكه، ولكنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنني لا أستطيع بيعه أو إعارته أو المقايضة به أو التبرع به، فلماذا نقبل بتطبيق هذه المعاملات على كل شيء سوى الكتب؟ هو تقديسٌ زرعه فينا بعض المؤلفين والمثقفين وأصبحنا نردده ونؤمن به دون مساءلة. نعم عزيزي القارئ المثقف، الكتب غير مقدسة، يمكنك أن تبيعها إلى مكتبةٍ شرائية ما، ويمكنك أن تهديها إلى زميلك في العمل، أو تستبدلها بأخرى من صديق، أو تتبرع بها.
وقد يقول قائل: لماذا أتخلى عن كتبٍ أودّ قراءتها مستقبلا، أو أريد لأبنائي أن يقرؤوها عندما يكبرون، أو قد أحتاج إليها لسببٍ أو لآخر في أي وقت؟ حسنًا، إن كنتَ لا تريد بيعها أو إهداءها، يمكنك التبرع بها إلى المكتبة العامة القريبة منك، وبذلك تضرب عشرات العصافير بحجر واحد: تكون قد أطلقت سراح الكتاب، وأشعتَ فائدته بين العديد من القراء الذين يمكنهم استعارته أو قراءته في المكتبة، ووضعته في مكانٍ غير بعيدٍ عنك عندما تريده. أما عن أبنائك، فمن خير الأمور أن يتعودوا على زيارة المكتبة العامة، بدلا من الاعتماد على مكتبتك الشخصية فقط! وإن كنت تُراكم الكتب في شتى المجالات كي تستطيع الرجوع إلى معلومةٍ ما متى ما احتجت إليها، فما فائدة المكتبات العامة إذن؟
دعوة
من هنا أوجّه دعوةً لك عزيزي القارئ أولا إلى مساءلة عادتك في تكديس الكتب، وإن بدأتَ في الاقتناع بأنها مجرّد عادة وليست واجبًا مقدسًا أدعوك إلى التخفف من كتبك التي لا توجد ضرورة للاحتفاظ بها بين جدران بيتك. تبرّع بها أو اهدها أو بِعها إن شئت. لتكن لدينا محلات دائمة لبيع الكتب المستخدمة، ويُمكن لبعض المؤسسات الحكومية أن تتبنى ذلك، كأن يخصص النادي الثقافي مثلا يومًا في الأسبوع يكون سوقًا لبيع الكتب المستخدمة. هذا ويمكن للمكتبات التجارية أن تدعو الناس إلى تقديم كتبهم لبيعها هناك، وتكون لهم نسبة من المبيعات. لنتبرع بكتبنا للمكتبات العامة التي دائمًا ما نشتكي من فقرها، أو لنردّ الجميل إلى المدارس التي درسنا فيها ونتبرع لمكتباتها. إن كنت تجمع الكتب حبًا في المعرفة أو المتعة، فلا تحكرها على نفسك.
عزيزي القارئ، لنمنح بعضًا من كتبنا أجنحةً تُحلّقُ بها إلى عقولٍ أخرى!
2 comments:
جميل أؤيدك تماما، الا في فقرة المكتبات العامة أين هي؟
في السابق كنت احتفظ بكتبي كلها، ومن يستعيرها مني يجب أن يعيدها، ولكن منذ سنتين بدأت اجد أن الكتب اصبحت تتكدس في بيتي، بسبب قلة المساحة، وصرت مضطرة إلى وضعها في صناديق أو أماكن أخرى، ويتراكم عليها الغبار، لذلك بدأت اتبرع بجزء كبير منها للعديد من الجهات،خاصة التي تنفذ مشاريع خيرية، وهذا اعطاني شعورا جيدا بانني اساهم في تقديم شيء للآخرين.
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.