(جريدة السفير اللبنانية، 17 فبراير 2012)
هل يقرأ اللبنانيون الكتّاب اللبنانيين وإلا فماذا يقرأون؟
رجل في الخمسينيات. البدلة العسكرية المهيبة تليق بقامته الطويلة. يصعد الدرج الطويل المفضي إلى بهو مكتبة «أنطوان». يريد شراء كرة أرضية ليشرح لأولاده الجغرافية عملياً. سألته إن كان يقرأ. نعم، يقرأ الصحف. سألته إن كان مهتماً بالأدب. كلا. بالسياسة؟ نعم. وما هو آخر كتاب سياسي قرأته؟ هل كان لكاتب لبناني؟ نظر إلي نظرة ساخرة: «كاتب لبناني؟ ليس هنالك أكذب من السياسيين اللبنانيين». ابتسم وأكمل طريقه.
محمد سلطان، المسؤول عن قسم الكتب العربية في «أنطوان»، لا يجد وقتاً للقراءة. عمله يبدأ في السابعة وينتهي في الثامنة مساء. ومتى سيقرأ؟
عندما بحثت في «غوغل» عن جملة «القراءة في العالم العربي»، جاءت العناوين على الشكل التالي: فضيحة القراءة في العالم العربي، مهزلة القراءة في العالم العربي، أزمة القراءة في العالم العربي، محنة القراءة في العالم العربي. وليست العناوين سوى مقدمة متفائلة لدراسات تبين أن متوسط القراءة للمواطن العربي هو ست دقائق في السنة! وأن القرآن الكريم لا يزال من الكتب الأكثر قراءة حسب التقرير السنوي للأمم المتحدة. ودراسة أخرى تقول إن القارئ العربي يقرأ ربع صفحة كل عام! أما اتحاد الناشرين العرب، فيعلن خلال أحد المؤتمرات، أن متوسط ما يقرأه الأوروبي هو خمسة وثلاثون كتاباً في السنة، في حين أن الشاب الهندي يقرأ ما يقارب العشر ساعات أسبوعياً. أما العربي فقد ذكر اتحاد الناشرين أن كل ثلاثة آلاف ومئتي عربي يقرأون كتاباً واحداً في السنة.
وعلى الرغم من ذلك، يبدو عيسى الأحوش صاحب دار نشر ومكتبة «بيسان» متفائلاً، إذ يؤكد أن نسبة القراءة لم تتراجع. منتصف شارع «مهاتما غاندي»، في حي الحمرا، تقع مكتبته الشهيرة. وهي من المكتبات القليلة التي لا يمكن الفصل بينها وبين صاحبها عيسى. رائحة القهوة تفوح في المكان دائماً. و«ركوة» ساخنة تعلو سطح المكتب الذي يجلس خلفه وكؤوس بلاستيك جاهزة للاستعمال. يقول عيسى إن «ركوة القهوة» فخ، لاستمهال الزبائن. الواجهة الزجاج، تظهر خلفها أكوام الكتب المكدسة بعضها فوق بعض. يظهر لون أوراقها، أبيض أو أصفر حسب النوعية وتاريخ الطباعة. لكن من يريد أن يعرف عناوينها، عليه أن يدخل إلى المكتبة. وكأن المكتبة لا تعرض الكتب لتبيعها. أو أنها لا تميّز بين كتاب وآخر. على عكس معظم المكتبات التي تحرص على ترتيب الكتب الأكثر مبيعاً خلف واجهاتها، لتشدّ القارئ.. الزبون.
أقول له إن بعض دور النشر اللبنانية، تأخرت في نشر العديد من المخطوطات بعد اندلاع الثورات العربية، بسبب اعتقادها أن المواطن العربي الذي كان أصلاً بالكاد يقرأ، لن يجد الآن ولا دقيقة واحدة للقراءة. يقول عيسى إن دور النشر تلك حذرة أكثر من اللزوم. وإن نسبة البيع لم تتأثر على الإطلاق على الرغم من الأوضاع الاستثنائية التي تمر بها كثير من البلاد العربية. علماً أن نسبة البيع تأثرت بعد استشهاد رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري 2005 وبعد حرب تموز 2006. وربما تجدر الإشارة، إلى أن «بيسان» لا تخضع لشروط «السوق». لأنها لا تشبه باقي المكتبات. ولأنها تحولت مع مرور الوقت، إلى بيت أو مقهى أو حتى نقطة لقاء لكثير من المثقفين والكتّاب والقرّاء. هل الكتب السياسية هي الأكثر مبيعاً الآن؟ كلا. يجيب عيسى. لا تزال الرواية هي الأكثر مبيعاً لديه. باستثناء بعض الكتب التي تلاقي رواجاً حسب المرحلة التي نمرّ بها. «الكتاب الأخضر» مثلاً، نسخ كثيرة منه مكدسة في إحدى الزوايا. يعتقد عيسى أن الإقبال على «الكتاب الأخضر» هو نتيجة الطريقة «المهينة» التي قتل بها القذافي. إذ تحول من جلاد إلى ضحية خلال دقائق قليلة. وعن الكتب التي تعرض فوق الرفوف الخشب والتي يلمحها القارئ فور دخوله إلى المكتبة، يقول عيسى إنه لا يخضع للأكثر مبيعاً في طريقة العرض. الأولوية للمنشورات التي صدرت حديثاً. وفي بعض الأحيان، يتم تكريم بعض الكتّاب الذين رحلوا، بجمع أعمالهم في إحدى الزوايا. مثل المؤرخ اللبناني كمال الصليبي الذي رحل قبل عام تقريباً، تظهر كتبه مكدسة تحت كتب ماغي فرح! وهل تبيع ماغي فرح أكثر من الصليبي؟ أعتقد ذلك. خاصة مع بداية العام الجديد. وربما من يشتري كتب الأبراج بداية العام، يمضي العام كله وهو يقرأها، حسب الإحصائيات. «ليس المكتبجي هو من يبيع الكتب المطلوبة، بل الذي يحوّل الكتب الجيدة والمغمورة التي لم تحظ بضجة إعلامية، إلى كتب مطلوبة ورائجة». يقول عيسى.
مكتبة أنطوان
أثناء جلوسي في «بيسان»، تفاجأت بعدد الزائرين. بعضهم من الكتّاب والباحثين، وبعضهم يريد إلقاء التحية، وبعضهم يحمل ورقة مدوناً عليها بعض العناوين. دخل شاب في الثلاثينيات. سأل عن كتاب لإيليا أبو ماضي وعن كتاب الشيف رمزي! بينما يختلف الوضع في مكتبة «أنطوان». فالزائرون لا هدف من وراء زيارتهم سوى شراء الكتب أو تصفح الإصدارات الجديدة. خاصة أن المكتبة تحتوي على طوابق عديدة، وتتنوع كتبها بين الفن والطبخ والديكور والمجلات والصحف وبين العربية والفرنسية والانكليزية. تقول المسؤولة عن قسم اللغة الفرنسية إن حركة البيع لم تتراجع في الفترة الأخيرة، وإن الكتب الفرنسية الأنيقة والباهظة الثمن، تباع دائماً. أما قسم الكتب العربية، فيختلف أيضاً عن مكتبة «بيسان» بطريقة عرض الكتب. إذ تحظى الكتب «الأكثر مبيعاً» على اهتمام مبالغ فيه دون النظر إلى أهميتها الأدبية. والكتب السياسية التي صدرت بغزارة بعد اندلاع الثورات العربية، هي الأكثر مبيعاً بعد الرواية. يقول سلطان إن الكتب التي تبحث في تنظيم الإخوان المسلمين مثلاً، تطلب كثيراً الآن. وعن حركة البيع، يقول إن الأوضاع في سوريا ساهمت بتراجع تلك الحركة قليلاً. خاصة أن الكثير من الزبائن الخليجيين كانوا يأتون إلى بيروت عن طريق البرّ، ويمرّون عبر سوريا.
عن الكتب الممنوعة في لبنان يقول الأحوش: المنع في لبنان بيد السلطة الدينية، والأمن العام ليس سوى السلطة التنفيذية. وغالباً تمنع الكتب التي تعالج مسألة الطائفية أو الدين. مثل كتاب «البحث عن يسوع» لكمال الصليبي. و«دافنشي كود» لدان براون و«دبلوماسية إسرائيل السرية في لبنان» لكريستين شولتز. مضيفاً أن أصحاب المكتبات على خلاف دائم مع السلطات لأنها لا تريد بناء مجتمع سيّد وحرّ وتريد العودة بنا إلى عصر الجاهلية. وإن كان هو نفسه، يمنع دخول بعض الكتب إلى مكتبته، يقول عيسى إنه مؤمن بحرية الفكر وإنه يبيع كل الكتب بغض النظر عن آرائه وأفكاره الخاصة.
أما عن مسألة الحسومات، فلا تجد مكتبة «أنطوان» ربما داعياً للقيام بها. لأن من يرتاد مكتباتها، يعرف مسبقاً الكلفة العالية للكتب الأجنبية الصادرة عن أهم دور النشر. لكنها منحت حديثاً الزبائن «بطاقة نقاط». وبذلك يحصل الزبون على حسم معين أو على هدية رمزية، بعد تجميعه نقاطاً محددة. وكأنه في مجمع تجاري كبير مثل «ABC» أو في سوبرماركت ضخمة. أما عيسى الأحوش صاحب مكتبة «بيسان»، فهو يراعي كثيراً أوضاع المثقفين والقرّاء العاديين. حتى وإن لم يقم بحسم معين، إلا أنه يهدي الزبون كتاباً يعجبه.
في حديقة الصنايع، صبية في الثلاثينيات تجلس على مقعد منزوٍ. تمسك كتاباً بلغة أجنبية. مستغرقة كانت بقراءته. تطفلت عليها. وسألتها عن الكتاب الذي تقرأه وإن كانت تواظب على القراءة. تقرأ لباولو كويللو باللغة الفرنسية. وتعتبر نفسها قارئة نهمة. إذ لا يفوتها أي كتاب جديد تصاحبه ضجة ما. مثل كتب كويللو «الأكثر مبيعاً»، ودافنشي كود والسرّ وغيرها من الكتب الأجنبية. وعندما سألتها إن كانت تقرأ لكتاب لبنانيين، ابتسمت وقالت إنها تقرأ بعض الكتب المترجمة لأنها تفضل القراءة بالفرنسية! شاب آخر صادفته في مكتبة «أنطوان»، كان منهمكاً بالبحث عن كتاب باللغة الإنكليزية. قال إنه لا يقرأ سوى الكتب التي تفيده باختصاصه. واختصاصه هو هندسة الديكور. يفتش لدى «أنطوان» عن الكتب والمجلات الحديثة التي تعرض آخر اكتشافات الموضة العصرية. رجل ثالث، يبحث عن كتب في القانون والمحاماة. وهي أيضاً تغني اختصاصه كمحام.
في المقهى، سألت بعض الشابات والشبان اللبنانيين عن آخر ما قرأوه. الدهشة من السؤال كانت انطباعاً مشتركاً بينهم. ماذا نقرأ! نقرأ الكتب الدراسية المقرّرة! إذاً معظمهم لا يقرأ. والبعض القليل منهم، يقرأ كتباً سياسية أو تاريخية أو عن الآثار، كل حسب اختصاصه. إضافة إلى جهلهم بأسماء الكتاب اللبنانيين من روائيين إلى شعراء ومفكرين. أو أنهم يهزون رؤوسهم مستجدين ذاكرتهم. ثم يكتفون بالقول: نسمع به لكن لم نقرأ له شيئاً. نقطة انتهت الجملة. لا يردفونها بكلمة «بعد». أي لا أمل في أن يقرأوا له شيئاً من أعماله.
في العام 2009، أظهرت دراسة ميدانية موّلتها وزارة الثقافة اللبنانية بمناسبة اختيار بيروت عاصمة عالمية للكتاب، أن التلفزيون يحتل المرتبة الأولى بين وسائل الترفيه التي يلجأ إليها اللبنانيون لتمضية أوقات فراغهم. وبعد التلفزيون بمسافة كبيرة، تأتي زيارة الأصدقاء والتنزه في المرتبتين الثانية والثالثة، بينما لا تستحوذ القراءة إلا على 3 أو 9 من النقاط لتحتل المرتبة الرابعة. ويبدو أن القراءة لا تزال مرتبطة بمفردات غريبة عنها مثل «الترفيه» أو «الهواية». والكثيرون لا يعتبرونها وسيلة تثقيفية أو تعليمية أو تنويرية. كما أشارت الدراسة الميدانية إلى أن خمس اللبنانيين لا يقرأون على الإطلاق، وأن ما يزيد على النصف لا يقرأون إلا مرة واحدة في الشهر، في حين لا تتعدى نسبة القراء اليوميين 17%.
ربما تكون هذه الإحصاءات غير دقيقة. وربما يكون الجيل الجديد قد عثر على وسائل تثقيفية أخرى، تناسب عصره وتناسب التغييرات الكبيرة التي طرأت على الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. وبعض هؤلاء الشباب ينعتون جيل آبائهم بالجهل، فقط لأنه لا يجيد استخدام الكومبيوتر والأنترنت ووسائل الاتصال الحديثة.
0 comments:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.