28 أبريل 2010

قراءاتكم: كتاب "رسائل إلى روائي شاب" (قراءة: رابع)


رسائل إلى روائي شاب

أنجز يوسا هذا الكتاب في سنة 1997 م، أي قبل أن يكتب روايتيه العظيمتين (حفلة التيس) و(الفردوس على الناصية الأخرى)، مستخدما ً نفس العنوان الذي استخدمه ريلكه في (رسائل إلى شاعر شاب)، الاختلاف كان في أن رسائل ريلكه موجهة إلى شاعر شاب حقيقي، بينما رسائل يوسا موجهة إلى كل روائي شاب، كما أن رسائل يوسا تزيد رسالتين على رسائل ريلكه العشر.

لنبدأ بالرسائل مع عرض بسيط وسريع وناقص بالتأكيد لمحتويات كل رسالة:

الرسالة الأولى: قطع مكافئ للدودة الوحيدة

في هذه الرسالة يحدد يوسا نقطة الانطلاق لأي روائي بأنها الميل إلى الأدب، حيث أن “الكاتب يشعر في أعماقه بأن الكتابة هي أفضل ما حدث، وما يمكن أن يحدث له، لأن الكتابة في نظره هي أفضل طريقة ممكنة للعيش، بصرف النظر عن النتائج الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية التي يمكن له أن يحققها من خلال ما يكتبه”، وهذا الميل نشأ حسب يوسا من التمرد على الواقع، ورفض وانتقاد الحياة كما هي، والرغبة في استبدالها بتلك الحياة التي يصطنعها الروائي بمخيلته، وهذا الميل إلى الأدب يجب أن يتحول إلى عبودية تشبه ما كانت تفعله السيدات البدينات في القرن التاسع عشر من ابتلاع دودة، تتغذى على أجسادهن، فالأدب يتغذى على حياة الكاتب، ويشغله لساعات متطاولة من الكتابة، ويضرب مثلا ً على ذلك فلوبير، وينصح بقراءة مراسلاته لعشيقته لويز كولي والتي تظهر مثابرته، ومتطلباته في فنه التي لم يتنازل عنها، وأنتجت (مدام بوفاري).

الرسالة الثانية: الكاتوبليباس

يفتتح يوسا هذه الرسالة بعبارة جميلة “الأدب هو أفضل ما تم اختراعه من أجل الوقاية من التعاسة”، ومن ثم يحدد هدف الرسالة بأنها للإجابة على سؤال: كيف تخطر الموضوعات للروائيين؟

يجيب يوسا بأن “أصل كل القصص ينبع من تجربة من يبتكرها، والحياة المعيشة هي الينبوع الذي يسقي القصص المتخيلة، وهذا لا يعني بكل تأكيد أن تكون الرواية على الدوام، سيرة حياتية مستترة لمؤلفها، بل يعني بصورة أدق أنه يمكن العثور في كل قصة حتى في أكثر قصص التخيل تحررا ً وانطلاقا ً، على نقطة انطلاق، على بذرة حميمة، مرتبطة أحشائيا ً بجملة من التجارب الحياتية لمن صاغها”، هذا الأصل أو هذه البذرة تمر بعملية ستريبتيز – تعري – معكوسة، فالروائي يقوم بستر وإسدال ملابس كثيفة على تلك الفكرة الأصلية، كما يشبه يوسا الروائيين بالكاتوبليباس الحيوان الخرافي الذي يظهر للقديس أنطوان في رواية فلوبير (إغواء القديس إنطوان)، وأعاد إبداعه بورخيس في (المرجع في مملكة الحيوان المتخيلة)، حيث يلتهم هذا الحيوان نفسه، بادئا ً بقدميه، والروائي يفعل ما يشبه ذلك في بحثه عن مرتكزات لروايته، ويرى يوسا أن أشهر من قام بذلك بروست في روايته (البحث عن الزمن الضائع).

ومع كل هذا، يرى يوسا أنه مع أن الحياة المعاشة هي نقطة الانطلاق في الابتكار الروائي، ولكنها ليست نقطة الوصول، وأن الرواية تحتاج إلى أن تبلغ استقلالها الذاتي والكامل عن مؤلفها، بحيث لا تظل مرتبطة به وبسيرته وإلا كانت رواية خائبة، ويصل أخيرا ً إلى مفهوم الكاتب الحقيقي أو الأصيل، أي الكاتب الذي يكتب عن المواضيع التي تفرض نفسها عليه وتهمه، لا من يكتب وعينه على رغبات الناس، وما يمكن أن يبيع أكثر.

الرسالة الثالثة: القدرة على الإقناع

وتتناول موضوع شكل الرواية، ويؤكد يوسا قبل أن يسترسل على أن الفصل ما بين محتوى الرواية وشكلها هو أمر مصطنع ولا يقبل به إلا لأسباب توضيحية وتحليلية، وأن ما ترويه الرواية لا يمكن فصله عن الطريقة التي روي بها، وأن هذه الطريقة هي ما يحدد كون الرواية قابلة للتصديق أم لا. حيث ترتكز قوة الإقناع فيها على أساس تضييق المسافة ما بين الوهم والواقع، وجعل القارئ يعيش الكذبة كما لو أنها حقيقة واقعة.

الرسالة الرابعة: الأسلوب.

تتناول كما هو واضح الأسلوب، وهو طريقة الروائي في اختيار مفردات اللغة وصياغتها وترتيبها، بحيث يكون الأسلوب فعال أو غير فعال، أي تصبح الرواية قادرة على الإقناع أو غير قادرة على ذلك؟ ويوسا يستبعد فكرة السلامة اللغوية، أي سلامة الرواية نحويا ً ولغويا ً – وأنا أخالفه في هذا وأعتبره مدمرا ً للقدرة على الإقناع، بالنسبة لي على الأقل -، ويؤكد كلامه بذكر كبار الروائيين الذين لا يمكن اتهام رواياتهم بسلامتها اللغوية مثل بلزاك وجويس وسيلين وكورتاثار.

ويعتبر يوسا الكتابة الروائية فعالة إذا كانت متماسكة داخليا ً – أي لها منطق معين تسير عليه، حتى ولو كانت تعبر عن قصة مشتتة ظاهريا ً، بحيث يشعر القارئ بأن هذه القصة لا يمكن أن تروى إلا بهذا الأسلوب، ويضرب مثالا ً رواية جويس (عوليس)، فهي تبدو كفيض مضطرب من الانفعالات والذكريات، ولكنها في الحقيقة أسلوب أدبي مبني بهذا الشكل ليبدو كوعي بلوم في حالة شرود -، وتكون فعالة أيضا ً إذا كانت تتصف بطابع الضرورة اللازمة ويعني أن لا يشعر القارئ بوجود فجوة بين ما يروى والكلمات التي يروى بها، بحيث لا يصدق القارئ أو لا يتفاعل مع ما يروى بسبب خراقة الأسلوب، ويبين فكرته باستدعاء أسلوب الكاتبين الكبيرين بورخيس وماركيز، وينبه إلى تقليد عدد كبير من الكتاب لهما في أسلوبهما، ولكن الكثير من هؤلاء لم يصلوا إلى ما وصل إليه الاثنان من طبع أسلوبهما بطابع الضرورة.

من ثم ينصح يوسا الروائي الشاب بأن يكثر من القراءة للأدباء الجيدين، في طريقه للبحث عن أسلوبه الذي يخصه، والذي يجب أن يكون متماسكا ً وضروريا ً، وينبهه إلى أن هذا يتم بشكل متدرج، وأن فوكنر ذاته، كانت رواياته الأولى بحثا ً عن أسلوب خاص، وفلوبير أيضا ً بحث عن أسلوبه، واحتاج لخمس سنوات من العمل الجبار على روايته الأولى ليصل إليه، ولفلوبير نظرية حول الأسلوب هي نظرية (الكلمة الدقيقة) – اكتشفت أنها متكونة لدي، وأني أؤمن بها قبل أن اقرأ أصلها الفلوبيري هنا -، أي أن هناك كلمة وحيدة تعبر عن الفكرة بالضبط، كيف يعرف الروائي أنه وصل إليها؟ بالسماع، أي عندما يكون وقعها جيدا ً، فلذا كان فلوبير يختبر كل جملة بطريقة الصراخ أو الصوت العالي، فكان يخرج إلى درب محفوف بالزيزفون ليقرأ بصوت عال ٍ ما كتبه، وهو درب صار يعرف فيما بعد بدرب الصراخ – اكتشفت أنني مارست هذه الطريقة، حيث كنت أعيد بصوت عال ٍ ما كتبته، لا لم يكن لدي يا حسرتي دربا ً للصراخ، كنت أصرخ في غرفتي، وبلا زيزفون -.

الرسالة الخامسة: الراوي – المكان

يحدد يوسا التحديات التي يواجهها أي روائي في أربع مجموعات كبيرة: الراوي، المكان، الزمن، مستوى الواقع.

يبدأ يوسا بتصحيح خطأ شائع، وهو تطابق الراوي مع المؤلف، وهو خطأ لا يقع فيه القارئ فقط، وإنما بعض الروائيين وخاصة عندما يكتبون باستخدام ضمير المتكلم ويعتمدون على شيء من سيرتهم الذاتية، الراوي حسب يوسا كائن مصنوع من الكلمات، كائن مختلق على الدوام، يعيش في الرواية التي يرويها، وطالما هو يرويها، وهو مثله مثل بقية شخوص الرواية، إلا أنه أكثر أهمية، لأن الرواية تروى من زاويته هو، بعد هذا علينا أن نعرف أن هناك ثلاثة خيارات فيما يتعلق بسؤال “من الذي سيروي القصة؟”، الخيار الأول: راو ٍ – شخصية في القصة، الثاني: راو ٍ – عليم، خارجي غير منتم للقصة التي يرويها – ولكن لا ننسى أنه كائن مصنوع هو بدوره -، الخيار الأخير: راو ٍ – ملتبس لا يعرف هل هو يروي من داخل العالم المروي أم من خارجه، وهو أحدثها ونتاج للرواية الحديثة.

كيف نعرف أي من هذه الخيارات اختار المؤلف؟ يكفي أن نعرف أي ضمير نحوي استخدم، فالضمير يطلعنا على الموقع الذي يشغله الراوي، فضمير المتكلم (أنا) أو (نحن) يعني أن الراوي راو ٍ – شخصية، وضمير الغائب (هو) يفيد أن الراوي راو ٍ – عليم، أما ضمير المخاطب (أنت) فيمكن أن يكون ملتبسا ً، إما راو ٍ – عليم أو راو ٍ – شخصية يستخدم هذا الضمير ليتحدث إلى نفسه، ويتوجه إلى القارئ في نفس الوقت.

بالطبع يمكن للمؤلف التنقل بين هذه الرؤى المكانية محدثا ً تبدلا ً في المنظور، ولكن على هذه التنقلات أن تكون مبررة ومفيدة وإلا أدت إلى إضعاف الرواية وقدرتها على الإقناع.

ويضرب يوسا أمثلة على هذه النقلات، رواية (موبي ديك) لهرمان ميلفل، و(بينما أرقد محتضرة) لفوكنر، و(مدام بوفاري) لفلوبير الذي كان يؤيد بقاء الراوي غير مرئي، بحيث لا يشعر القارئ بوجود من يروى له، ويتكون لديه شعور بأن النص يتولد من تلقاء نفسه، وحتى يفعل هذا، أبدع فلوبير بعض التقنيات، أبرزها حيادية الراوي وعدم تأثره بما يرويه – كونديرا كمثال بعيد تماما ً عن هذا -.

الرسالة السادسة: الزمن

يقسم يوسا الزمن إلى زمنين: زمن تسلسلي (كرونولوجي) – وهو الزمن الذي نعيش فيه نحن البشر الحقيقيين -، وزمن نفسي (سيكولوجي) – وهو مدى وعينا بالزمن ومروره -، وزمن الرواية هو زمن مشيد انطلاقا ً من الزمن النفسي، ويضرب مثالا ً على ذلك رواية (حادث على جسر نهر البومة)، وقصة بورخيس (المعجزة السرية).

يعرف يوسا بعد هذا الرؤية الزمنية في الرواية على أنها العلاقة القائمة بين زمن الراوي وزمن ما يروى، ولها ثلاثة احتمالات: الأول، تطابق زمن الراوي وزمن ما يروى، بحيث تروى الأحداث بصيغة المضارع، الاحتمال الثاني، الراوي يروي انطلاقا ً من الماضي أحداثا ً تجري في الحاضر أو المستقبل، الثالث، الراوي يتموضع في الحاضر أو المستقبل ويروي أحداثا ً وقعت في الماضي البعيد أو القريب، للتمييز بين هذه الرؤى يتناول يوسا قصة أغوستو مونتيروسو (الديناصور)، وهي قصة قصيرة جدا ً، نصها:

“عندما استيقظ، كان الديناصور لا يزال هناك”.

ما هي الرؤية الزمنية لهذه القصة؟ هي من النوع الثالث، حيث نلاحظ أن الفعل استيقظ يدل على الماضي المطلق، بينما الراوي يروى لنا وهو متموضع في المستقبل، ولو أردنا تغيير الرؤية الزمنية لقصة الديناصور لتصير من النوع الأول لكان النص بهذا الشكل:

“يستيقظ و لايزال الديناصور هناك”، حيث الراوي والمروي في نفس الزمن.
ولتكون من النوع الثاني، أي الراوي يستقر في الماضي ويروي أحداثا ً لم تحدث بعد، أي مكانها المستقبل:

“عندما ستستيقظ، سيكون الديناصور لايزال هناك”.

الرسالة السابعة: مستوى الواقع

ويعرفه على أنه العلاقة القائمة بين طبقة الواقع التي يقف فيها الراوي لكي يروي الرواية، وطبقة الواقع التي تدور فيها أحداث ما يروى، ويقسمها مع الكثير من التحفظ إلى: مستوى عالم واقعي ومستوى عالم خيالي (فانتازي)، ويستخدم قصة الديناصور مرة أخرى، حيث يبين أن مستوى الواقع في هذه القصة هو مستوى خيالي، لوجود الديناصور فيها، بينما الراوي يقف في المستوى الواقعي، لم َ؟ لأنه لو دققنا في القصة لانتبهنا إلى الدهشة التي تعبر عنها كلمة لايزال “عندما استيقظ، كان الديناصور لايزال هناك” – لنتخيل أن البطل فقد وعيه عندما رأى الديناصور أمامه، فالراوي العليم يخبرنا أنه عندما استيقظ كان الديناصور لا يزال هناك متحديا ً المنطق والواقع -.

الرسالة الثامنة: النقلات والقفزات النوعية

يعرف يوسا النقلة على أنها أي تبدل يطرأ على وجهات النظر أو الرؤى المكانية أو الزمانية أو مستوى الواقع، وتكون هذه النقلة نوعية عندما تحول مستوى الواقع في في القصة من عالم واقعي إلى عالم خيالي.

الرسالة التاسعة: العلبة الصينية

وهي التي تتكون من علبة بداخلها علبة أصغر بداخلها علب أصغر وهكذا، ولكنها في الفن الروائي عبارة عن تولد قصص فرعية عن القصة الرئيسية ، وأبرز الأمثلة عليها (ألف ليلة وليلة) ورواية (الحياة القصيرة) لخوان كارلوس أونيتي.

الرسالة العاشرة: المعلومة المخبأة

ويقصد بها عدم كشف معلومة معينة في الرواية وتركها لخيالات القارئ وافتراضاته، ومثالها قصة همينغواي (القتلة) حيث لا نعرف سبب بحث القتلة عن السويدي أول أندرسن، وهناك أيضا ً رواية هيمنغواي (وما تزال الشمس تشرق) – وأعترف أني عندما قرأتها افترضت فعلا ً المعلومة المخبئة التي أشار إليها يوسا، ولكن لأني لم أكن أعرف هذا المفهوم، شعرت بحيرة كبيرة، لمَ يشر إليها هيمنغواي !!! -

الرسالة الحادية عشرة: الأواني المستطرقة

ويعني بها وجود واقعتان أو أكثر تجريان في أزمنة أو أمكنة أو مستويات واقع مختلفة ويجمع بينها كلية سردية واحدة، بهدف أن يحدث هذا المزج تعديل متبادل أو دلالات مختلفة، ويضرب مثالا ً على ذلك مشهد المعرض الزراعي من رواية (مدام بوفاري)، حيث تجري أحداث المعرض الزراعي، وفي ذات الوقت تلتقي إيما بوفاري برودولف، وحيث يهدف المزج بين الحدثين إلى تخفيف حدة خطابيهما، خطاب المستشار لييفان بكل ما فيه من نفاق، وخطاب رودولف العاشق بكل ما فيه من كلمات حب وهيام.

الرسالة الثانية عشرة: على سبيل الوداع

يؤكد في هذه الرسالة الأخيرة على قيمة النقد، وإمكانية الاستفادة منه مع ذكر بعض الكتب النقدية المهمة، ولكنه مع هذا يشير إلى أن النقد لا يمكنه مهما كان دقيقا ً وقويا ً أن يلم بكامل العملية الإبداعية، فلذا تكون نصيحته الأخيرة “صديقي العزيز: إنني أحاول أن أقول لك أن تنسى كل ما قرأته في رسائلي حول الشكل الروائي، وأن تبدأ دفعة واحدة بكتابة الروايات”.

رسائل إلى روائي شاب
ماريو بارغاس يوسا
ترجمة: صالح علماني
من إصدارات دارى المدى
الطبعة الأولى 2005 م
130 صفحة

لنشر الموضوع على الفيس بوك والتويتر Twitter Facebook

0 comments:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.