(نُشر هذا العرض في ملحق شرفات الصادر عن جريدة عمان بتاريخ 3 مارس 2010)
أفغانستان من الداخل
عرضٌ لكتاب "بائع الكتب في كابول"
أحمد حسن المعيني
من تبعات الغزو الأمريكي لأفغانستان في 2001 ونجاحه في إسقاط نظام "طالبان" أن تكوّن اهتمامٌ عالمي بهذه البقعة من الكرة الأرضية، بتاريخها وتراثها وتقاليدها ونظامها الاجتماعي، إضافة إلى الوضع السياسي بعد الحرب بطبيعة الحال. وفي الحقيقة فإن هذا الظرف المؤسف لأفغانستان كان فرصة سانحة لمن أراد أن يكتب كتابًا يحقق أعلى المبيعات عالميًا، وهذا ما حصل فعلا، فظهرت كتب كثيرة تتناول أفغانستان تاريخًا وحاضرًا وتكهنًا بالمستقبل. ومن بينها كتابٌ بعنوان "بائع الكتب في كابول"، صدر عام 2003 في النرويج واعتلى قائمة أفضل الكتب غير الأدبية مبيعًا في تاريخ النرويج، وتُرجم إلى الإنجليزية عام 2004 وغدا واحدًا من أفضل الكتب مبيعًا في العالم. نتناول هنا النسخة العربية الصادرة عام 2009 عن الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف، بترجمة حليم نصر.
أما مؤلفة الكتاب فهي (آسني سييرستاد)، صحفية نرويجية نشيطة ومغامرة، عملت مراسلة في العديد من المناطق الملتهبة كالعراق والشيشان وأفغانستان، وعُرفت في بلدها بتقاريرها الإخبارية من العراق بعد سقوط بغداد. صدرت لها حتى الآن أربعة كتب تتناول توثيقًا لمشاهداتها في صربيا وكابول وبغداد والشيشان. أما الكتاب الذي نحن بصدده، فقد تميّز بفكرةٍ إبداعية خارجة عن المألوف في الكتابة الصحفية، ويُعتبر تجربة فريدة ودرسًا صحافيًا مميزًا. فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وغزو أفغانستان، ذهبت المؤلفة إلى هناك مع قوات التحالف الشمالي تسجّل ملاحظاتها ومشاهداتها، إلا أنها لم تكتفِ بهذا الدور الصحافي التقليدي، وفكّرت في الكتابة عن المجتمع الأفغاني من الداخل: أسلوب الحياة، والعادات والممارسات والأفكار والتقاليد. جاءتها هذه الفكرة بعد أن التقت صاحب مكتبة اسمه "سلطان خان" وتعرفت إلى أسرته، فعرضت عليه أن تقيم في منزله مع عائلته كي تستطيع الكتابة من واقع الحياة عن المجتمع الأفغاني. وهكذا أمضت المؤلفة ثلاثة شهور في منزل "سلطان خان" ترى وتسمع من أهل البيت عن حاضرهم وماضيهم.
وأما جمالية الكتاب وصفته الإبداعية فتتجسد في أن المؤلفة اختارت قالبًا روائيًا تحكي فيه قصة عائلة سلطان خان، وهذا القالب قد منحها القدرة كساردة على الغوص في دواخل الشخصيات وتتبع تطورها وأفكارها ودوافعها. إضافة إلى ذلك، فقد اختارت المؤلفة أن تخصص كل فصلٍ لشخصيةٍ من الشخصيات ودورها في القصة، بدلا من سرد الوقائع بالترتيب الزمني، مما ساعد في تسليط الضوء على تفاعل الشخصيات وصراعها مع بعضها أو مع الآخرين. يبدأ الكتاب بفصل تمهيدي تحكي فيه المؤلفة مجيئها إلى كابول ولقاءها ببائع الكتب، وفكرة الكتاب الذي بين يدي القارئ. وهنا تختفي المؤلفة ولا نجدها أبدًا في بقية الفصول، وتتحول إلى مجرد صوت سارد يحكي في كل فصل جانبًا من شخصيةٍ من عائلة سلطان خان باستثناء فصلين اثنين نجد فيهما معلومات عن الخلفية الاجتماعية والسياسية التي تجري فيها الأحداث. وينتهي الكتاب بخاتمةٍ تعود فيها المؤلفة لتقول لنا ماذا حدث للشخصيات بعد رحيلها من كابول.
نتعرف في هذا الكتاب إلى قصة سلطان خان بائع الكتب الذي نذر نفسه للحفاظ على تراث بلاده وآدابها، وتوفير الكتب التاريخية والأدبية للافغان عبر عقودٍ طويلة وأنظمة سياسية وحروب مرّت بها أفغانستان من العهد الملكي، إلى الاحتلال السوفييتي، إلى الحرب الأهلية، إلى طالبان فالغزو الأمريكي. وسلطان خان هذا شخصية فريدة من نوعها، فنجده ليبراليًا جدًا منفتحًا على جميع الأطياف يؤمن بحق الجميع في نشر أفكارهم، فلا يجد غضاضة في بيع الكتب الشيوعية، ومنشورات المجاهدين، وكتب طالبان، رغم أنه عانى منهم جميعًا: "أقدم الشيوعيون على إحراق كتبي، ثم جاء المجاهدون بعد ذلك لتخريب المكتبة ونهبها، وأخيرًا أكملت جماعة طالبان إحراق ما تبقى مرة جديدة" (ص8). أما في بيته فسلطان خان ديكتاتوري متسلط، رغباته لا تقبل النقاش، ومن يعصي أوامره يُطرد من نعيمه. بعد عشرته الطويلة مع زوجته (شريفة) يتزوج وهو فوق الخمسين من فتاة في السادسة عشر، ويقرر إبعاد الزوجة الأولى إلى باكستان حتى إشعار آخر. هذا الرجل العصامي المكافح، والقاسي جدًا في أحيان أخرى يمكن أن يوصف في بيت شعر يحبه هو كثيرًا للفردوسي: "ومن أجل أن تعيش/ينبغي عليك/أن تكون/في بعض الأحيان ذئبًا/وأن تكون شاةً/في بعضها الآخر" (ص46).
ونتعرف في الكتاب إلى (منصور) ابن سلطان الذي يعمل في مكتبة ابيه رغمًا عنه ويتمنى أن يعيش حياته بعيدًا عن سلطة أبيه، و(ليلى) الأخت الصغرى لسلطان والتي تعمل في البيت مثل الخادمة لا تتوقف أبدًا، تتمنى الخلاص من حياة العبودية هذه إما بالحصول على وظيفة أو بالزواج من شخصٍ لا يكرر لها مأساتها. أما (إيمال) فهو أصغر أبناء سلطان يبلغ من العمر 12 عامًا، ويعمل اثنتي عشرة ساعة يوميًا طوال الأسبوع في "كشك" صغير في أحد الفنادق، محرومًا من المدرسة، ومن اللعب، ومن الرفاق. وإضافة إلى هذه الشخصيات هناك (بيبي غول) والدة سلطان العجوز، وإخوة سلطان العديدين.
لا بد لنا من الاعتراف للمؤلفة بنجاح الكتاب في تحقيق واحدٍ من أهم أهدافه، وهو تصوير المجتمع من الداخل، حيث نقلت إلينا (آسني سييرستاد) تفاصيل خاصة ومفصلة للعديد من الممارسات الاجتماعية المتعلقة بالخطوبة، وحفل الزفاف، والنميمة النسويّة، والتسوّق، وارتياد الحمّام العمومي، والتقاليد المتبعة في الملابس، وغير ذلك. ولا شك في أن المؤلفة استفادت من ميزة كونها أنثى، تستطيع التغلغل في الجانب النسوي من المجتمع الأفغاني، وهو ما لا يتوفر للصحافي أو الباحث من الرجال. واستطاعت المؤلفة بعد ارتدائها برقع العباءة الأفغاني من الوصول إلى الجانب الرجالي أيضًا في المزار الديني والسوق والمدارس ورحلات العمل إلى بيشاور ولاهور.
أما التركيز الأكبر في الكتاب فكان منصبًا على قضية الظلم الاجتماعي الواقع على المستضعفين في المجتمع، أي النساء والأبناء المكتوب عليهم طاعة الأب، ولعل الكفة هنا ترجح للنساء، حيث تخصص الكاتبة جزءًا كبيرًا من الكتاب للحديث عن معاناة النساء في المجتمع الأفغاني. نجد في الكتاب أن الافغانيات محرومات من حرية الاختيار في كل شيء، وأنهن تابعات للرجال، وأنهن كالسلع تُباع وتُشترى باسم الزواج، هذا إلى جانب القيود العديدة المفروضة عليهن في الملبس والحركة. ولا يفوت الكاتبة أن تخصص فصلا تتحدث فيه عن الحب المحرّم على الأفغانيات، وكيف أن ما يبقى من قصص الحب هذه هو الانتحار والأغاني الشعبية المتداولة. وتتبدى ثيمة الظلم على المرأة جلية في شريفة التي يتزوج عليها سلطان دون سبب، و ليلى التي لا تستطيع أن تختار من تريد زوجًا لها أو ترفض من لا تريد، وسليقة التي يعاقبها أهلها بشدة لأنها تبادلت بعض الرسائل مع شاب. ومن الناحية الأخرى تسلط الكاتبة الضوء على ابني سلطان (منصور) و (إيمال) الذين يسخّرهما أبوهما للعمل حارمًا إياهما من الدراسة ومن الاستمتاع بالحياة.
لا شك في أن كتابًا بهذه المواصفات يفترض تقديم الحقيقة وكشف المستور في المجتمع الأفغاني لا بدّ أن يحقق نجاحًا باهرًا، إلا أن هناك بعض الأسئلة الأساسية التي تفرض نفسها هنا. أولا، هل قالت آسني سييرستاد الحقيقة كلها؟ سؤال أجاب عليه بائع الكتب نفسه محمد شاه رايس (أي سلطان خان في الكتاب) بعد أن قرأ الترجمة الإنجليزية للكتاب، فرفع قضية في النرويج ضد المؤلفة متهمًا إياها بتشويه سمعته هو وعائلته، مكذبًا الكثير مما جاء في الكتاب وغاضبًا من خيانة المؤلفة لحسن الضيافة. صحيحٌ أن الأسماء الواردة في الكتاب مستعارة، ولكن بائع الكتب هذا شخصية معروفة في كابول ومن يعرف كابول سيعرف أن الكتاب يتحدث عن شاه رايس. هذا وقد نشر شاه كتابًا يحكي فيه "القصة الحقيقية" ويرد به على "افتراءات" المؤلفة، سمّاه "كان يا ما كان بائع كتب في كابول"، وتُرجم إلى النرويجية والبرتغالية. أما السؤال الثاني فيتعلق بمسألة أخلاقيات البحث والآثار المترتبة على قول "الحقيقة". يقول شاه بأنه تلقى العديد من الرسائل المهينة والتهديدات والمضايقات، مما دفعه إلى طلب اللجوء في أوروبا، في حين سافرت زوجته الأولى وبناته إلى كندا حيث إخوتها. من جهةٍ أخرى، قد يكون هذا الكتاب "الانتقائي" تقديمًا للمجتمع الأفغاني إلى الملايين من الناس حول العالم الذين لا يعرفون الكثير عن أفغانستان، فهل يصلح الكتاب هذا لهذا الدور، خاصة وأن الكاتبة تعترف بأن الكتاب "قصة عائلة أفغانية واحدة، وهنالك ملايين من العائلات. ولم تكن عائلتي هذه بأي حال من الأحوال لتعتبر عائلة نموذجية" (ص15). وأما السؤال الثالث فهو: هل تكفي المدة التي قضتها المؤلفة في أفغانستان لتفهم كل ما سجّلته من مشاهدات، أو لتعرف ما يكفي من تفاصيل المجتمع الأفغاني المعقد المتشابك اجتماعيا وسياسيا؟ إن قرار المؤلفة بالكتابة عن هذه العائلة فقط جعلها تركز على قضية المرأة وتهمل قضايا أساسية أخرى من أهمها التمييز العرقي في أفغانستان (رغم وجود إشارات هنا وهناك).
باختصار، نقول إن مشروع المؤلفة رغم فرادته وسلاسة سرده متسرعٌ وغير ناضج، وربما مُحمّل مسبقًا بنظرة استشراقية لأفغانستان. هذا ولم تستطع المؤلفة استغلال الميزات التي أعطيت لها في تصوير المجتمع الأفغاني بشكلٍ أكثر شمولية وتفصيلا، مثلما فعل الكاتب الأفغاني مثلا (خالد حسيني) في روايتيه "عدّاء الطائرة الورقية" و "ألف شمس مشرقة".
لنشر الموضوع على الفيس بوك والتويتر
أفغانستان من الداخل
عرضٌ لكتاب "بائع الكتب في كابول"
أحمد حسن المعيني
من تبعات الغزو الأمريكي لأفغانستان في 2001 ونجاحه في إسقاط نظام "طالبان" أن تكوّن اهتمامٌ عالمي بهذه البقعة من الكرة الأرضية، بتاريخها وتراثها وتقاليدها ونظامها الاجتماعي، إضافة إلى الوضع السياسي بعد الحرب بطبيعة الحال. وفي الحقيقة فإن هذا الظرف المؤسف لأفغانستان كان فرصة سانحة لمن أراد أن يكتب كتابًا يحقق أعلى المبيعات عالميًا، وهذا ما حصل فعلا، فظهرت كتب كثيرة تتناول أفغانستان تاريخًا وحاضرًا وتكهنًا بالمستقبل. ومن بينها كتابٌ بعنوان "بائع الكتب في كابول"، صدر عام 2003 في النرويج واعتلى قائمة أفضل الكتب غير الأدبية مبيعًا في تاريخ النرويج، وتُرجم إلى الإنجليزية عام 2004 وغدا واحدًا من أفضل الكتب مبيعًا في العالم. نتناول هنا النسخة العربية الصادرة عام 2009 عن الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف، بترجمة حليم نصر.
أما مؤلفة الكتاب فهي (آسني سييرستاد)، صحفية نرويجية نشيطة ومغامرة، عملت مراسلة في العديد من المناطق الملتهبة كالعراق والشيشان وأفغانستان، وعُرفت في بلدها بتقاريرها الإخبارية من العراق بعد سقوط بغداد. صدرت لها حتى الآن أربعة كتب تتناول توثيقًا لمشاهداتها في صربيا وكابول وبغداد والشيشان. أما الكتاب الذي نحن بصدده، فقد تميّز بفكرةٍ إبداعية خارجة عن المألوف في الكتابة الصحفية، ويُعتبر تجربة فريدة ودرسًا صحافيًا مميزًا. فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وغزو أفغانستان، ذهبت المؤلفة إلى هناك مع قوات التحالف الشمالي تسجّل ملاحظاتها ومشاهداتها، إلا أنها لم تكتفِ بهذا الدور الصحافي التقليدي، وفكّرت في الكتابة عن المجتمع الأفغاني من الداخل: أسلوب الحياة، والعادات والممارسات والأفكار والتقاليد. جاءتها هذه الفكرة بعد أن التقت صاحب مكتبة اسمه "سلطان خان" وتعرفت إلى أسرته، فعرضت عليه أن تقيم في منزله مع عائلته كي تستطيع الكتابة من واقع الحياة عن المجتمع الأفغاني. وهكذا أمضت المؤلفة ثلاثة شهور في منزل "سلطان خان" ترى وتسمع من أهل البيت عن حاضرهم وماضيهم.
وأما جمالية الكتاب وصفته الإبداعية فتتجسد في أن المؤلفة اختارت قالبًا روائيًا تحكي فيه قصة عائلة سلطان خان، وهذا القالب قد منحها القدرة كساردة على الغوص في دواخل الشخصيات وتتبع تطورها وأفكارها ودوافعها. إضافة إلى ذلك، فقد اختارت المؤلفة أن تخصص كل فصلٍ لشخصيةٍ من الشخصيات ودورها في القصة، بدلا من سرد الوقائع بالترتيب الزمني، مما ساعد في تسليط الضوء على تفاعل الشخصيات وصراعها مع بعضها أو مع الآخرين. يبدأ الكتاب بفصل تمهيدي تحكي فيه المؤلفة مجيئها إلى كابول ولقاءها ببائع الكتب، وفكرة الكتاب الذي بين يدي القارئ. وهنا تختفي المؤلفة ولا نجدها أبدًا في بقية الفصول، وتتحول إلى مجرد صوت سارد يحكي في كل فصل جانبًا من شخصيةٍ من عائلة سلطان خان باستثناء فصلين اثنين نجد فيهما معلومات عن الخلفية الاجتماعية والسياسية التي تجري فيها الأحداث. وينتهي الكتاب بخاتمةٍ تعود فيها المؤلفة لتقول لنا ماذا حدث للشخصيات بعد رحيلها من كابول.
نتعرف في هذا الكتاب إلى قصة سلطان خان بائع الكتب الذي نذر نفسه للحفاظ على تراث بلاده وآدابها، وتوفير الكتب التاريخية والأدبية للافغان عبر عقودٍ طويلة وأنظمة سياسية وحروب مرّت بها أفغانستان من العهد الملكي، إلى الاحتلال السوفييتي، إلى الحرب الأهلية، إلى طالبان فالغزو الأمريكي. وسلطان خان هذا شخصية فريدة من نوعها، فنجده ليبراليًا جدًا منفتحًا على جميع الأطياف يؤمن بحق الجميع في نشر أفكارهم، فلا يجد غضاضة في بيع الكتب الشيوعية، ومنشورات المجاهدين، وكتب طالبان، رغم أنه عانى منهم جميعًا: "أقدم الشيوعيون على إحراق كتبي، ثم جاء المجاهدون بعد ذلك لتخريب المكتبة ونهبها، وأخيرًا أكملت جماعة طالبان إحراق ما تبقى مرة جديدة" (ص8). أما في بيته فسلطان خان ديكتاتوري متسلط، رغباته لا تقبل النقاش، ومن يعصي أوامره يُطرد من نعيمه. بعد عشرته الطويلة مع زوجته (شريفة) يتزوج وهو فوق الخمسين من فتاة في السادسة عشر، ويقرر إبعاد الزوجة الأولى إلى باكستان حتى إشعار آخر. هذا الرجل العصامي المكافح، والقاسي جدًا في أحيان أخرى يمكن أن يوصف في بيت شعر يحبه هو كثيرًا للفردوسي: "ومن أجل أن تعيش/ينبغي عليك/أن تكون/في بعض الأحيان ذئبًا/وأن تكون شاةً/في بعضها الآخر" (ص46).
ونتعرف في الكتاب إلى (منصور) ابن سلطان الذي يعمل في مكتبة ابيه رغمًا عنه ويتمنى أن يعيش حياته بعيدًا عن سلطة أبيه، و(ليلى) الأخت الصغرى لسلطان والتي تعمل في البيت مثل الخادمة لا تتوقف أبدًا، تتمنى الخلاص من حياة العبودية هذه إما بالحصول على وظيفة أو بالزواج من شخصٍ لا يكرر لها مأساتها. أما (إيمال) فهو أصغر أبناء سلطان يبلغ من العمر 12 عامًا، ويعمل اثنتي عشرة ساعة يوميًا طوال الأسبوع في "كشك" صغير في أحد الفنادق، محرومًا من المدرسة، ومن اللعب، ومن الرفاق. وإضافة إلى هذه الشخصيات هناك (بيبي غول) والدة سلطان العجوز، وإخوة سلطان العديدين.
لا بد لنا من الاعتراف للمؤلفة بنجاح الكتاب في تحقيق واحدٍ من أهم أهدافه، وهو تصوير المجتمع من الداخل، حيث نقلت إلينا (آسني سييرستاد) تفاصيل خاصة ومفصلة للعديد من الممارسات الاجتماعية المتعلقة بالخطوبة، وحفل الزفاف، والنميمة النسويّة، والتسوّق، وارتياد الحمّام العمومي، والتقاليد المتبعة في الملابس، وغير ذلك. ولا شك في أن المؤلفة استفادت من ميزة كونها أنثى، تستطيع التغلغل في الجانب النسوي من المجتمع الأفغاني، وهو ما لا يتوفر للصحافي أو الباحث من الرجال. واستطاعت المؤلفة بعد ارتدائها برقع العباءة الأفغاني من الوصول إلى الجانب الرجالي أيضًا في المزار الديني والسوق والمدارس ورحلات العمل إلى بيشاور ولاهور.
أما التركيز الأكبر في الكتاب فكان منصبًا على قضية الظلم الاجتماعي الواقع على المستضعفين في المجتمع، أي النساء والأبناء المكتوب عليهم طاعة الأب، ولعل الكفة هنا ترجح للنساء، حيث تخصص الكاتبة جزءًا كبيرًا من الكتاب للحديث عن معاناة النساء في المجتمع الأفغاني. نجد في الكتاب أن الافغانيات محرومات من حرية الاختيار في كل شيء، وأنهن تابعات للرجال، وأنهن كالسلع تُباع وتُشترى باسم الزواج، هذا إلى جانب القيود العديدة المفروضة عليهن في الملبس والحركة. ولا يفوت الكاتبة أن تخصص فصلا تتحدث فيه عن الحب المحرّم على الأفغانيات، وكيف أن ما يبقى من قصص الحب هذه هو الانتحار والأغاني الشعبية المتداولة. وتتبدى ثيمة الظلم على المرأة جلية في شريفة التي يتزوج عليها سلطان دون سبب، و ليلى التي لا تستطيع أن تختار من تريد زوجًا لها أو ترفض من لا تريد، وسليقة التي يعاقبها أهلها بشدة لأنها تبادلت بعض الرسائل مع شاب. ومن الناحية الأخرى تسلط الكاتبة الضوء على ابني سلطان (منصور) و (إيمال) الذين يسخّرهما أبوهما للعمل حارمًا إياهما من الدراسة ومن الاستمتاع بالحياة.
لا شك في أن كتابًا بهذه المواصفات يفترض تقديم الحقيقة وكشف المستور في المجتمع الأفغاني لا بدّ أن يحقق نجاحًا باهرًا، إلا أن هناك بعض الأسئلة الأساسية التي تفرض نفسها هنا. أولا، هل قالت آسني سييرستاد الحقيقة كلها؟ سؤال أجاب عليه بائع الكتب نفسه محمد شاه رايس (أي سلطان خان في الكتاب) بعد أن قرأ الترجمة الإنجليزية للكتاب، فرفع قضية في النرويج ضد المؤلفة متهمًا إياها بتشويه سمعته هو وعائلته، مكذبًا الكثير مما جاء في الكتاب وغاضبًا من خيانة المؤلفة لحسن الضيافة. صحيحٌ أن الأسماء الواردة في الكتاب مستعارة، ولكن بائع الكتب هذا شخصية معروفة في كابول ومن يعرف كابول سيعرف أن الكتاب يتحدث عن شاه رايس. هذا وقد نشر شاه كتابًا يحكي فيه "القصة الحقيقية" ويرد به على "افتراءات" المؤلفة، سمّاه "كان يا ما كان بائع كتب في كابول"، وتُرجم إلى النرويجية والبرتغالية. أما السؤال الثاني فيتعلق بمسألة أخلاقيات البحث والآثار المترتبة على قول "الحقيقة". يقول شاه بأنه تلقى العديد من الرسائل المهينة والتهديدات والمضايقات، مما دفعه إلى طلب اللجوء في أوروبا، في حين سافرت زوجته الأولى وبناته إلى كندا حيث إخوتها. من جهةٍ أخرى، قد يكون هذا الكتاب "الانتقائي" تقديمًا للمجتمع الأفغاني إلى الملايين من الناس حول العالم الذين لا يعرفون الكثير عن أفغانستان، فهل يصلح الكتاب هذا لهذا الدور، خاصة وأن الكاتبة تعترف بأن الكتاب "قصة عائلة أفغانية واحدة، وهنالك ملايين من العائلات. ولم تكن عائلتي هذه بأي حال من الأحوال لتعتبر عائلة نموذجية" (ص15). وأما السؤال الثالث فهو: هل تكفي المدة التي قضتها المؤلفة في أفغانستان لتفهم كل ما سجّلته من مشاهدات، أو لتعرف ما يكفي من تفاصيل المجتمع الأفغاني المعقد المتشابك اجتماعيا وسياسيا؟ إن قرار المؤلفة بالكتابة عن هذه العائلة فقط جعلها تركز على قضية المرأة وتهمل قضايا أساسية أخرى من أهمها التمييز العرقي في أفغانستان (رغم وجود إشارات هنا وهناك).
باختصار، نقول إن مشروع المؤلفة رغم فرادته وسلاسة سرده متسرعٌ وغير ناضج، وربما مُحمّل مسبقًا بنظرة استشراقية لأفغانستان. هذا ولم تستطع المؤلفة استغلال الميزات التي أعطيت لها في تصوير المجتمع الأفغاني بشكلٍ أكثر شمولية وتفصيلا، مثلما فعل الكاتب الأفغاني مثلا (خالد حسيني) في روايتيه "عدّاء الطائرة الورقية" و "ألف شمس مشرقة".
0 comments:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.