05 سبتمبر 2012

مقالات: القراءة وبناء رؤية العالم


المصدر: جريدة الاتحاد
بتاريخ: 05 سبتمبر 2012

كتبت شما محمد آل نهيّان



ما زلنا نحلق في الفضاء المعرفي لعالم القراءة. ذلك الفضاء الذي يسري بنا إلى مدارج لا نهائية من الثقافة والفكر، ويهبنا روحاً تظل متوثبة للتطور والنهوض، كما يهبنا يقيناً لا يتزعزع بأن المعرفة هي طوق النجاة الذي يوصلنا بهذا التطور وذاك النهوض.

وها نحن اليوم نحلق في فضاء جديد من الفضاءت المعرفية لعالم القراءة، حيث نحاول في هذا المقال أن نكتشف الدور الذي تلعبه عملية القراءة في تأسيس وبناء"رؤية العالم".

وللوهلة الأولى، يبدو أن تأسيس علاقة بين "رؤية العالم" وبين عملية القراءة قضية غير مطروقة أو غير معتادة، لذا نسعى في هذا المقال إلى أن نستكشف الدور المهم لعملية القراءة في تأسيس وبناء "رؤية للعالم" تجعلنا- على المستوى الفردي والمجتمعي- أقدر على إعادة هندسة وبناء وعينا الذاتي والمجتمعي، بما يجعلنا أقدر على بناء النموذج المعرفي النابع من هذا الوعي، والقادر على تفسير الظواهر، التي يشتمل عليها الواقع الذي نعيشه، في ثباته وفي تغيره وتطوره.

لكن ما المقصود إذن بمفهوم "رؤية العالم"؟ وما الدور الذي تلعبه عملية القراءة في بناء وتأصيل وتطوير رؤية العالم؟

وبعيداً عن التعقيدات والجذور الفلسفية والنظرية المرتبطة بمفهوم رؤية العالم –التي تحتاج حقاً الى دراسة مستقلة - يمكن القول إن مفهوم رؤية العالم بات يتداخل مع العديد من التخصصات المعرفية في العلوم الإنسانية، مثل علم الاجتماع والفلسفة والأدب، ويكتسب هذا المفهوم معاني متنوعة داخل كل تخصص من هذه التخصصات.

حيث يعني هذا المفهوم في الفلسفة الرؤية أو وجهة النظر، أو الكيفية التي يرى الفرد من خلالها الكون الذي يعيش فيه، بما يحتوي عليه هذا الكون من مظاهر وظواهر متعددة ومتنوعة. أو ما يسمى "الرؤية الفلسفية للكون". ويرتبط مفهوم رؤية العالم في علم الاجتماع -خاصة علم اجتماع المعرفة - بطبيعة الرؤية التي يكتسبها الفرد بمقتضى وجوده ومعيشته في مجتمع معين. وبمقتضى ما يكتسبه من أفكار ومشاعر وطموحات وعادات وتقاليد وقيم، خلال مسيرة حياته داخل هذا المجتمع.أما في مجال الإبداع الأدبي فيرتبط مفهوم رؤية العالم بــ "زاوية النظر" أو "الرؤية "، التي ينظر من خلالها الأديب، إلى الواقع الذي يعيش فيه، ويعبر عنها في أعماله الإبداعية، في مجال الرواية والقصة والمسرح، وكافة فنون وأشكال التعبير الأخرى.

وعلى الرغم من هذه المعاني المتنوعة التي ترتبط بمفهوم رؤية العالم داخل هذه التخصصات العلمية ، فثمة هناك قاسم مشترك بينها، يتمثل في أن كل أشكال الإبداع الفلسفي والأدبي والعلمي والسياسي تمثل تعبيراً وتجسيداً لرؤية العالم.

أن رؤية العالم - إذن - أشبه بمنظور أو منظار خاص، يعبر عن المشاعر والأفكار والطموحات التي تعتمل داخل وجدان وعقل الفرد، وتحكم نظرته إلى كل ما يحيط به من ظواهر. وكلما اتسع مجال الرؤية الذي يصل إليه هذا المنظار، وكلما كان هذا المنظار واضحاً وجلياً كلما استطاع الفرد أن يفهم ويفسر هذه الظواهر، مهما كانت طبيعة هذا التفسير، سواء أكان تفسيراً فلسفياً أو علمياً أو دينياً.

وتتكون رؤية العالم من خلال تراكم معرفي طويل، وسباحة فكرية لا تخلو من المعاناة، لذا يرى بعض المفكرين أن رؤية العالم بمعناها الشامل والدقيق لا توهب إلا للخاصة من الأدباء والفلاسفة والمفكرين . فهم الأقدر -بناء على هذا الرأي-على التعبير عن رؤية العالم التي تخص المجتمع الذي يعيشون فيه، أو الجماعة الاجتماعية التي ينتمون إليها.

لكن ينبغي التأكيد على أن رؤية العالم ليست حكراً على هؤلاء الخاصة، من الفلاسفة والأدباء والمفكرين؛ فكل منا - مهما كان مستوى وعيه أو تعليمه – يمتلك " رؤية للعالم " حتى لو كان غير واع بذلك. وليس أدل على ذلك من شيوع مصطلحات معينة في حواراتنا الفكرية، أو حتى في كلامنا العادي في حياتنا اليومية: من قبيل " أنا أرى كذا... أو في تصوري كذا ... أو من وجهة نظري ... الخ. لكن الأهم أن تتسم هذه الرؤية بالطابع العلمي والمعرفي الذي يمكننا من فهم وتفسير الواقع الذي نعيشه على نحو صحيح.

ورؤية العالم بهذا المعنى تحمل في طياتها مستويين: المستوى الفردي، والمستوى الاجتماعي. ويرتبط المستوى الفردي برؤية العالم التي ينظر من خلالها الفرد إلى كل ما يحيط به. أو تصوراتنا عن العالم الذي نعيش فيه، وما يحتويه من ظواهر وموجودات.

ومن خلال تآلف أو تشابه "رؤى العالم" بين الأفراد الذين ينتمون إلى مجتمع واحد أو جماعة اجتماعية واحدة، يتشكل المستوى الثاني من رؤية العالم، وهو المستوى الاجتماعي. وهذا ما يفسر لنا التشابه في أشكال السلوك وأنماط التفكير والمعارف والعادات والقيم السائدة في المجتمع.

وعليه فإن هذين المستويين يتسمان بقدر من التشابه والاتساق. غير أن هذا التشابه والاتساق يحتاج إلى جهود فكرية ومعرفية من المثقفين- داخل المجتمع– للتقريب وتذويب الفوارق بين الرؤية الذاتية أو الفردية، والرؤية المجتمعة للعالم. فهذا التقريب هو الكفيل بتشكيل رؤية للعالم ذات طابع متجانس، يجمع في طياته ما هو فردي وما هو مجتمعي في نسيج واحد.

لذا يمكن القول إن رؤية العالم لا تنشأ في فراغ ولا تتطور من فراغ ، بل ترتبط بالمجتمع الذي تنشأ فيه، تحمل قسماته وسماته الاجتماعية والثقافية. كما أنها تحمل قسمات الماضي، وسمات الحاضر وملامح المستقبل.كما تتجسد، ويتم التعبير عنها في كل صنوف الإبداع الثقافي والفكري والفلسفي والسياسي داخل المجتمع ،كما تتجلى في آمال وطموحات ومشاعر وتطلعات وتصورات أبناء هذا المجتمع نحو ذاتهم ونحو مجتمعهم.

وهنا ينبغي التأكيد على الدور الفاعل الذي تلعبه عملية القراءة في تأسيس وبناء وتطوير رؤية العالم. فإذا كانت رؤية العالم تتكون عبر تراكم معرفي طويل، وجهد فكري وثقافي لا يخلو من المعاناة، سواء من جانب الفرد أو المجتمع، فإن القراءة هي الوسيلة الأساسية التي تمكننا من بناء وتأسيس رؤية العالم، وذلك بمقتضى ما تتيحه القراءة من تراكم فكري وثقافي ، وبما تلعبه من دور فعال في تنمية خيالنا ، وتصوراتنا وأفكارنا، ومشاعرنا، وأنماط تفسيرنا لما يحيط بنا من ظواهر.

وما رؤية العالم سوى تعبير عن هذه المشاعر والأفكار والتصورات. كما أن القراءة تمكننا –على المدى الطويل - من أن تكون رؤية العالم أكثر وضوحاً، بحكم ما تتيحه القراءة من تراكم معرفي، كما أن القراءة تجعل رؤية العالم أكثر تجانساً، حيث تجمع بين ما هو فردي وما هو مجتمعي، في نسيج واحد يعبرعن الطابع الوطني للمجتمع الذي نعيش فيه. ويعكس طموحات ومشاعر وآمال أبناء هذا الوطن في التقدم والنهوض. ويضرب بجذوره في الماضي، ويعبر عن الحاضر، ويتطلع إلى المستقبل، فهذا هو السبيل الكفيل ببناء رؤية للعالم "تعبر عن روح المجتمع وهويته الثقافية والوطنية، وتحقق ما يمكن أن نطلق عليه "توطين رؤية العالم".


لنشر الموضوع على الفيس بوك والتويتر Twitter Facebook

0 comments:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.