(نُشرت هذه القراءة في جريدة السفير اللبنانية بتاريخ 12 يونيو 2010)
حسين العبري في "الأحمر والأصفر": مشروع عبقرية غير مكتمل
بقلم: هدى الجهوري
في آخر صفحة أو قبل الأخيرة تبدأ أحداث رواية حسين العبري "الأحمر والأصفر"، تحديدا في هذا السطر "ليست غلطتكم بل هو اختياري الحر". هكذا بواسطة آلة حادة ولامعة يخز سالم وريده عند الرسغ. منذ الصفحة الأولى من الرواية، نكتشف أن الراوي شخصية محورية في العمل، وليس خارج الأحداث أو بعيدا عنها، يُعرفنا على سالم الشاب الذي أقدم على الانتحار تاركا مذكراته ليستعرضها، ويتدخل فيها، وفي تأويلها.
يُصر الرواي على أنه يقدم لنا شخصية استثنائية، وعبقرية نبتت ضمن ظروف عادية، بالرغم من أننا كقراء لا نرى شيئا غير عادي في سالم يجعله يختلف عن أقرانه سوى فيما يتحلى به من ذكاء أو قدرات تحليلية. يتضح جليا أن الراوي على علاقة وثيقة بالبطل، لذا فهو يتحدث عنه من مسافة قريبة، بل من الداخل. يصفه لنا: "ينظر لحياة الناس واقفا في نقطة النهاية، يكتفي بالانزواء في غرفته من غير أن يقوم بمناورات صبيانية". الراوي كُلي المعرفة يخبرنا كل شيء عن سالم.. عن حياته، عائلته، أصدقائه، مدرسته "لم يتوانَ معلموه عن إتحافه بالعديد من المزايا الخلاّقة التي تحيله ذكيا ولامعا إلا أنه خارج غرف الصف كان يفقد بريقه". تتضح علاقة الرواي بالبطل من قوله:" لم يكن في مقدورنا نحن الذين شاءت أقدارنا أن نعرفه تخمين ما كان يدور في رأسه".
تسير الأحداث سيرا خطيا إلا أن الكاتب يميل إلى قطع خط سير الأحداث بمقاطعات يُقحمها الراوي ليتحدث إلى القارئ: "وأحب أن اطمئن القارئ، أني كأي رجل علمي يُشرع في بحث جاد توخيت الدقة والأمانة في تقصي الأحداث"، تبدو تدخلات الراوي، وتحليلاته مهيمنة على شخصية ومذكرات سالم. في بعض الأحيان تكسر هذه الوقفات روتين الرتابة، وتنقل الأحداث إلى مستوى آخر، وفي أحيان تبدو طارئة، وغير مهمة. منطق الرواية بوليسي، إذ يطارد القارئ الراوي بحثا عن تفاصيل تخص صاحب المذكرات المنتحر.
زمن الذاكرة..زمن السرد
تقع الرواية في فصلين تدور الأحداث في الفصل الأول في زمنين، زمن في ذاكرة سالم الذي يرجع إلى السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، وزمن نهاية التسعيينات الذي تتأسس فيه حركة افتتاح السرد فيما يتعلق بحياة سالم. بينما الفصل الثاني يؤثث زمانه في بداية القرن الواحد والعشرين. زمن الفصل الأول طويل قياسا بالفصل الثاني الذي يمتد منذ بداية حياة سالم إلى المرحلة الثانوية، بينما الثاني مكثف في زمن الإجازة الصيفية التي قضاها سالم مع أخيه في مسقط، وبالنسبة للمكان وقع الفصل الأول في القرية، بينما وقع الفصل الثاني في مدينة مسقط.
قبائل من المخيلة:
لم يتحرج العبري من وضع أسماء للقبائل: "سالم بن محمد المَلاّحِي، وصديقيه الأوحدين، محمد العلّاني وعبد الله الشمسي"، علماً أنْ لا قبائل في عمان بهذه الأسماء، فقد ابتكر حلا عمليا وتجريبيا من المخيلة، لكي يبتعد عن المساءلة الاجتماعية، فواقعية الكتابة الروائية تقتضي التعرض للتفاصيل كما نعيشها في الواقع. ابتعد العبري عن ذكر القبائل عندما انتقل في الفصل الثاني إلى مسقط لأن نمط الحياة في العاصمة يختلف عن القرية، واكتفى بذكر المكان، "منطقة الغبرة".
ما يقود إلى الانتحار
الطالب المصري وليد عبد مصطفى ابن احد معلمي اللغة العربية الجدد في مدرسة سالم، صاحب الوجه الكروي والجسد اللين الرجراج، كان مختلفا عن الآخرين، لذا انشغل سالم بهذا الاختلاف الذي يجمعهما وسط تشابه الآخرين. كان وليد يلبس ملابس داخلية قطنية بينما الطلاب العمانيين يلبسون الإزار، لذا كان موضع سخرية واستغراب من الآخرين، لأنه خارج الثقافة المعتادة.
توطدت العلاقة، وتعرف سالم إلى أسرة وليد، وإلى أخته نهاد التي كانت تكبرهما بقليل. غرق في أحلام يقظة محورها نهاد، وجمسها البض وبنطالها الضيق، وشعرها البني. اقترب سالم من سخونة جسدها وكانت تستجيب له، فأصبحت أنثاه المشتهاة، وتبادلا الرسائل الغرامية. لكن عندما تعرض وليد لمحاولة تحرش جنسي نظرا لجاذبيته الجسمانية من قبل أحد الطلاب اضطر للسفر مع عائلته إلى مصر.
منهج ديكارت
اعتكف سالم في غرفته، تدهورت حالته الصحية وضعف جسمه، فكر في الانتحار، إلا أنه لم ينتحر، وبدأ يشعر أن علاقته قوية بالله لذا قرر أن يقرأ الكتب الدينية، فاكتشف أن الدين ليس مُدرسي التربية الإسلامية، والعصا ليست هي أداته "إنما معرفة الله بالقلب الخاشع" فشعر بالذنب لأنه فكر في الانتحار، وبدأ يفكر في ضرورة أن يحافظ على الصلاة، إلا أنه ما لبث أن بدأ منهجه الديكارتي التشكيكي المرفق بالتحليل: "لا يجب أن يكون يوم الحساب ذا آلية بسيطة كما نتخيل..مؤمن مرحبا بك في الجنة، كافر أرموه في النار.. فالناس على طاولة الرب لا يفترقون إلى دربين أحمر واخضر". من هنا افترض مجيء عنوان الرواية "الأحمر والأصفر" لأن حسين العبري يشكك تماما في وجود هذه الدلالة القاطعة على النعيم والشقاء، لذا يفترض لونا ثالثا يقع تماما بين الأخضر والأحمر، بين الجحيم والجنة، اللون الذي يمنح فرصا لنهايات أخرى، فهل يعقل أن يذهب الفلاسفة إلى النار بالرغم من اجتهاداتهم؟
من هنا كان يكبر السؤال. اللون الأصفر كان معادلا للتشكيك بكل شيء، ومساويا لإعادة قراءة الحياة خارج منظومة الأفكار المتشابهة، والمتعارف عليها.
وضع سالم خطة لإعمار ذاته بالإيمان، وكنس دنس خطاياه، فثبت أوصاف حور العين في مذكراته ليتذكر نعيم المؤمن، لكن سيطرة الشيطان على أفكاره كانت أقوى بكثير من أن تغريه بالنعيم.
مسقط ..فسحة التجريب
يبدأ زمن القص في الفصل الثاني في اللحظة التي يقرر فيها أخو سالم ويدعى خالد أخذه من القرية إلى مسقط. بدت له مسقط مختلفة، فقد امتطى الناس ظهور أفكار أخرى. رأى أن المرأة تطوق بيدها يد زوجها من دون أن يشعرا بفضول الآخرين. في مسقط أصبح تفكير سالم أبعد من الدين والله والانتحار، كان جسد المرأة هو ما يخطف ناظريه. تعرف إلى نوال المغربية الفاتنة التي كانت تعمل راقصة، وقليلا قليلا بدأت نوال تُلغي صورة نهاد، بل تقفز عليها. يتضح لنا أن السلوك الذي اتخذه سالم في القرية هو التأمل لمعرفة حقيقة العالم وسير الناس فيه، وفي مسقط السلوك الذي اتخذه هو التلصص على الناس. انتقل سالم لاحقا إلى فكرة القتل. فكر في أن يقتل الرجل الذي يعتدي على عاملة المنزل في بناية مجاورة لشقته عند غياب الزوجة. فكّر بطريقة جيدة لقتله، ولكنه لم يفعلها واكتفى بإرسال رسائل موقعة باسم فاعل خير للزوجة. وما أن التقى بالزوجة حتى وجدها غير مهتمة بالأمر بل وراودته عن نفسه، فلم يقاوم ذلك، واستجاب لها بسهولة.
الشخصيات لعبة الراوي:
الرواية في فصلها الأول كانت تمهد لرجل عبقري، إلا أننا في الفصل الثاني لا نرى إلا رجلا محموما بممارسة الجنس، وتجريب الجسد. ترسم الرواية صورة المرأة من الخارج، تحديدا من مراكز فتنتها، بينما تتجاهل رسمها من الداخل. فهن نساء يتخذن من الجسد وسيلة للاستمتاع، والكسب المادي من دون أن يكون هنالك تورط عاطفي على أقل تقدير. عندما فكر سالم في إصلاح ذاته، لم يكن ذلك إلا بنية كسب حور العين اللواتي سيشبع بهن رغباته.
يوهمنا العبري أن بطل الرواية هو سالم، فهو الشخصية الوحيدة المتطورة، التي تتحرك عبر الزمن كما تتحرك قناعاتها وأفكارها، إلا أن الحقيقة هي أن سالم لا يعدو أن يكون "مذكرات" يحركها الراوي، ويدير لعبتها. الشخصيات الأخرى جامدة مسايرة للحدث، إلا أنها غير متطورة، ثابتة على إيقاع واحد من دون أن يكون لها نفسها الخاص.
كان سالم ممسوسا بالتجريب..منذ اختبار السرقة، ثم الجسد، ثم فكرة الانتحار، ثم التقرب إلى الله، ثم اختبار التشكيك بكل شيء، وبعدها فكرة القتل، ثم اختبار الجنس، وشرب الخمرة، ومن ثم العودة إلى المساجد، وبعدها اختبار قطع شريان الرسغ.
تسير الأحداث سيرا خطيا إلا أن الكاتب يميل إلى قطع خط سير الأحداث بمقاطعات يقحمها الراوي كلي المعرفة: "وأحب أن اطمئن القارئ، أني كأي رجل علمي يشرع في بحث جاد توخيت الدقة والأمانة في تقصي الأحداث"، تبدو تدخلات الراوي، وتحليلاته مهيمنة على شخصية ومذكرات سالم، في بعض الأحيان تكسر هذه الوقفات روتين الرتابة، وتنقل الأحداث إلى مستوى آخر، وفي أحيان تبدو طارئة، وغير مهمة. يبدو منطق الرواية بوليسيا، إذ يطارد القارئ الرواي بحثا عن تفاصيل تخص صاحب المذكرات.
11 comments:
سبق لي أن قرأت إصدارين للكاتب من أصل ثلاثة
وكانت عادية جدا ، ولكن يبدو بأن - الأحمر والأصفر - مختلفة تماما .
كل التوفيق للجميع
رواية الاحمر والاصفر > لا بأس بها
بينما المعلقة الاخيــرة هي التي اعجبتني بحق
اتمنى لو اجد قراءاتكم فيها
أردت معرفة ما إذا كانت هدى قد وقعت روايتها الأخيرة كما كان مقرراً أم لا ؟
أخشى أنّه قد فاتني !
مرحبا هالة..
كلا لم توقع هدى على روايتها منذ أن تم تأجيل حفل التوقيع قبل فترة.
العزيزة وضحى
ماذا تقصدين بالمعلقة الأخيرة هل هي جزء من رواية الأحمر والأصفر أم إصدار مختلف لحسين العبري ؟
مودّتي
شكراً لكَ أحمد ،
أتمنى أن يتم توقيع الرواية قريباً ، إن لم يكن قد ألتغت النيّة !
و أتمنى أن يتم إعلان لذلكـ
تمنياتي بالتوفيق لـ هدى
كل حد ينتحر مع حسين العبري
قرات الاحمر والاصفر لحسين منذ شهرين وبأمانة شديدة اصابنتني بالاحباط لانني كنت انتظر من حسين بالذات شيء اكبر من الاحمر والاصفر بكثير خصوصا بعد الوخز
رحمة ال خليفين
أتفق في أغلب ما كتبته (هدى) فيما يخص رواية حسين العبري ...
الكاتب حسين العبري من وجهة نظري استطاع الوصول إلى مناطق يصعب على بعض الكتاب العمانيين تحديداً الخوض في تفاصيلها وقد نجح في وصف الكثير من المشاهد التي ربما مر بها البعض أو عاش شيئاً من تفاصيلها (المحرجة)وهو النجاح الأكبر الذي أحسسته وأنا أقرأ الرواية ...
المشكلة في نظري أن حسين حمل الشخصية اكثر مما ينبغي وأعطاها مساحة كبيرة أثناء التوطئة لها تجاوزت حتى الشخصية نفسها .. سالم كان يبدوا بأنه سيكون فلتة أو معجزة خارقة في الصفحات الأولى للرواية ... ولكنه تحول لشيطان مهووس بالجنس والمرأة وحب مراقبة الآخرين وكشف أسرارهم ...
حسين ايضاً لم يحترم القارئ كثيراً عندما أقحم نفسه وأفكاره في سياق النص المكتوب فهو لم يترك للقارئ فرصة للتحليل والاستنتاج والحكم على مجريات الشخصية والأحداث بل أنه تكفل بذلك.. ويبدو لي بأن حسين لا يستطيع الخروج من عباءة الكاتب الطبيب النفسي فهو يسترسل في الحديث عن نفسية الشخصية وتناقضاتها ويسهب كثيراً في قراءة ما تفكر به الشخصية داخلياً وهو أمر محمود للكاتب إذا ما كان ضمن نطاق معين يتيح للقارئ المجال لأن يكون له أيضاً رأيه الشخصي في تصرفات الشخصيات وسلوكها ... حسين ضغط على شخصية سالم كثيراً في الجزء الآخر من الرواية وجعل الأحداث أكثر كثافة ولكن في مدة زمنية بسيطة لم تتجاوز إجازة الصيف أضف إلى ذلك أنه لم يقنعني شخصياً في دوافع كثير مما قام به سالم ولم يفسر كثيراً من تصرفاته.
الرواية تبدو أقرب للمعلقة الأخيرة اكثر منها للوخز ... وهي جميعاً في مجملها بالنسبة لي لا تتعد كونها قصص (طويلة) تتناول تحاليل ونظريات نفسية تقترب للجانب العلمي البحت أكثر منها لروح السرد (الروائي) تحديداً ...
تحياتي
أنهيت قراءتها الآن و أقول بصراحة أنها لم تعجبني لأني لم أشعر بأن الكاتب قدم شيئاً جديداً أو حتى شيئاً يستحق التفكير فيه.
شعرت بأن القصة لم تكن تذهب لمكان معين، و لم أخرج منها بشيء جديد.
أشعرتني الرواية بالإحباط وخصوصا بعد قرائتي للوخز والمعلقة الأخيرة في رواية الأحمر والتأصفر الكاتب لم يحترم القارئ رواية لا تستحق أن تضيع وقتك معها أبدا علما بأني لم اقرائها كلها فقط بعض الوريقات وأحسست بأنها تسئ لي. وان الله في الأعلى يحاسبنا على ألقرائات التي نختارها (م.)
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.