الفن والدين بين الشرق والغرب
سعيد بن سلطان الهاشمي
يكثر الجدل بشأن العلاقة بين الدين والفن. ، وخاصة بين أوساط المسلمين، لأن من بيننا من يعتقد أن هناك ثمة تعارض بينهما؛ وهو أمر لا يعكس إلا ذلك التصحر العاطفي والوجداني في نفوس من يروجوا لهكذا تعارض. إن من أسباب "تخشب" و"تكلس" نظرتنا للدين؛ إقصاؤنا للفن و عدم الاحتفاء به جوانياً. فالنفس الإنسانية جلبت على اللين والرفق، لأنهما بلسم القلق الوجودي الذي نصطحبه منذ لحظة الميلاد، وحتى ساعة الموت. فكما وظيفة الدين السعي إلى سمو الروح البشرية، واتساقها مع الطموحات الخيرية للإنسان. و وظيفة العلم السعي إلى اكتشاف القوانين واستخدامها. فإن العمل الفني أياً كان نوعه؛ "يعكس النظام الكوني كما هو، ودون أن يستفسر عنه".
من الكتب المهمة التي تناولت هذا الموضوع وأبرزت له تحليلاً معتبراً، وسبراً معمقاً؛ كتاب " الإسلام بين الشرق والغرب" لرئيس البوسنة والهرسك الأسبق علي عزت بيجوفيتش. فعندما يتحدث الكاتب عن (الدين) يعرفه على أنه علاقة شخصية تأملية بين الإنسان وبين ربه ، وعندما يتحدث عن الإسلام فإنه يتحدث عنه في إطار الفكرة الجديدة التي ابتدعها وهي فكرة ( الوحدة ثنائية القطب) والتي تضم في مركب جديد القضيتين المتصادمتين المنفصلتين في العقل الغربي ألا وهما: الروح والمادة، السماوي والأرضي،الإنساني والحيواني.
ويصور (علي عزت) هذا التزاوج كما يحدث في الطبيعة عندما تلتحم ذرات عناصر مختلفة فتنتج عناصر ذات خصائص جديدة،كما تفعل ذرات الأكسجين مع ذرات الهيدروجين لتنتج الماء، ..الإسلام عند (علي عزت) أكثر من دين لأنه يحتوي الحياة كلها.
كما يؤكد المؤلف بتحليلاته الدقيقة أن الفشل الذي أصاب الأيدلوجيات الكبرى في العالم إنما يرجع إلى نظرتها إلى الإنسان والحياة بطريقة (أحادية الجانب) شطرت العالم إلى شطرين متصادمين؛ بين مادية ملحدة وكاثوليكية مغرقة في الأسرار، ينكر كل واحد منهما الآخر ويدينه بلا أمل في لقاء.
"فالإنسان ليس هو ذاك الذي يصفه علم الحفريات، أو علم النفس، أو الأنثروبولوجيا، فهذه كلها علوم تصف من الإنسان فقط، الجانب الخارجي الآلي. الإنسان مثله كمثل اللوحة الفنية والمسجد والقصيدة؛ أكثر من مجرد كمية ونوعية المادة التي تكونه. الإنسان أكثر من جميع ما تقوله العلوم مجتمعة".
من أكثر الأشياء إدهاشاً في هذا الكتاب؛ قدرة بيجوفيتش على تناوله لقضايا يظنها العموم أنها تتعارض مع الدين كالفن والدراما والقانون و علم الأخلاق والفلسفات الوجودية والعدمية وتحليلها بطريقة تربطها إنسانياً، واستخلاص عناصر دينية من تلك الموضوعات تخدم الحياة المتحضرة للإنسان وعمارته للأرض.
في الفصل الثالث من الكتاب يغوص الرئيس الأسبق للبوسنة في عوالم ظاهرة الفن وعلاقتها بالأديان وكيف أن الإنسان كان شاهد عيان، بل محور التمازج بينهما. "فالفن أبن الدين.. وإذا أراد أن يبقى حياً فعليه أن يستقي دائماً من المصدر الذي جاء منه".
كما أن الفن يملك القدرة أكثر من غيره على رد َدينه للدين بوضوح أكثر خلال؛ الرسم والنحت والموسيقى. فالأعمال الفنية الكبرى لعصر النهضة تكاد تكون (إنجيلا من ألوان وأحجار)، وفن المعمار، في جميع الثقافات، تتجلى أعظم إلهاماته في بناء المعابد. حيث ينطبق هذا –على حد السواء- على المعابد في الهند القديمة وكمبوديا، كما ينطبق على المساجد في أنحاء العالم الإسلامي، وعلى المعابد التي وجدت في غابات أمريكا قبل وصول كولومبس، وكذا كنائس القرن العشرين في أنحاء أوروبا والولايات المتحدة. و الفن عند عديد من موسيقي ورسامي أوروبا والهنود وكثير من فنانين الشرق والغرب أشبه بجيشان نداء باطني، خالص، أو نوع من البلاغ الإلهي.
إن ما يخبرنا به الفن، والطريقة التي يخبرنا بها؛ شيء يفوق قدرتنا على التصديق ، كأننا بإزاء رسالة دينية ؛ أنظر إلى اللوحات الجصية اليابانية القديمة ، أو قطعة من فن الأرابيسك الإسلامي على مدخل فناء قصر الحمراء بغرناطة، أو على قناع من جزر الميلانيزيا ، أو على رقصات قبيلة في أوغندا، أو لوحة يوم الحساب ( لمايكل أنجلو) أو لوحة جيرنيكا ( لبيكاسو)، أو أستمع إلى موسيقى (دبوسي) في استشهاد القديس سباستيان، أو إلى أغنية روحية زنجية ، ولسوف تجرب شيئاً غامضاً ملغزاً فوق المنطق والمعقول كما تشعر في الصلاة. "ألا يبدو عمل من أعمال الفن التجريدي لا عقلي ولا علمي كأنه شعائر دينية؟ إن اللوحة الفنية بشكل ما ، هي نوع من أنواع الشعائر مرسومة على قماش، كما أن السيمفونية شعائر لحنية".
إن الفن ليس إبداعاً للجميل خصوصاً إذ اعتبرنا أن نقيض الجمال ليس هو القبح وإنما الزيف. فما الفن إلا؛ البحث الأصيل عن الحقيقة ، لأنها تمثل شعوراً،إحساساً جوانياً، اتحاداً بحدث كوني يتعلق بمصير الإنسان وشعوره بالتسامي.
0 comments:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.