22 فبراير 2010

قراءات: رواية "عندما تشيخ الذئاب" لـ(جمال ناجي)


(نُشر هذا العرض في ملحق "شرفات" في جريدة عمان بتاريخ 17 فبراير 2010)

متى تنكشف الذئاب؟
عرض لرواية "عندما تشيخ الذئاب"


أحمد حسن المعيني


هل التأليفُ الإبداعي إلهامٌ أم اشتغال؟ قد تتضاربُ الآراء في هذا الموضوع، ولكن المؤكد أن توفير المساحة والمناخ الملائم للاشتغال يساعد في الخروج بعملٍ إبداعي. والعملُ الذي نحن بصدده اليوم هو ما أنتجه (جمال ناجي) في إجازة التفرغ الأدبي التي حصل عليها عام 2007 من وزارة الثقافة الأردنية، وصدرت الرواية عن الوزارة عام 2008، ثم في طبعتها الثانية عن الدار العربية للعلوم عام 2010 في 245 صفحة. جمال ناجي روائي وقاص أردني من أهم الأسماء الأدبية في الأردن، وقد صدرت له ست روايات وثلاث مجموعات قصصية حتى الآن. له مشاركات فاعلة في المشهد الأدبي الأردني قد يكون أبرزها ترأسه لرابطة الكتاب الأردنيين من عام 2001 حتى 2003. نُشرت أول رواية له عام 1982 "الطريق إلى بلحارث" وحققت نجاحًا كبيرًا وأعيدت طباعتها عدة مرات. أما قصصه القصيرة فقد تميزت بأسلوب المفاجأة في آخر القصة، وهذا ما سنراه في الرواية التي نتحدث عنها.

في رواية "عندما تشيخ الذئاب" اعتمد المؤلف تقنية سردية بدأت تنتشر عربيًا في السنين الماضية وتحقق قدرًا من القبول والمتعة لدى القارئ، وهي تقنية تعدد الرواة أو الأصوات، بحيث لا يكون هناك ساردٌ واحد عليم بكل شيء، بل ينساب السردُ على لسان عدة شخصيات. وهكذا نجد في الرواية خمس شخصيات تتبادل السرد (إضافة إلى شخصية سادسة تظهر في أواخر الرواية مرة واحدة)، فتروي لنا الأحداث كما عرفتها (أو كما تريد أن تحكيها)، فلا تكتفي بتكرار ما عرفناه من شخصية أخرى، بل تضيف إليه وتوضح جوانب أخرى منه. وسيلاحظ القارئ أن (عزمي الوجيه)-الشخصية الرئيسة المحورية التي يدور الجميع في فلكها- ليس أحد الساردين، وإنما يأتينا وصفه عبر الشخصيات الأخرى. وأعتقد أن هذا قرار صائب وذكي من المؤلف؛ لأنه بذلك حافظ على الحَيرة والغموض الذي تتشبع به هذه الشخصية، فنبقى نحن القراء مثل بقية الشخصيات حائرين فيها ولا نعرف كيف تفكر ولماذا تتصرف بهذا الشكل.

أما العالم الذي تبنيه هذه الرواية بثيمتها الأساسية فهو عالم الخيانات، عالم نوعٍ من الناس لا يعرف الأمانة، كالذئاب. وتتخذ الخيانة في الرواية أشكالا مختلفة: اجتماعية وسياسية وفكرية ودينية وزوجية وأخلاقية، فجمال ناجي يطرق في روايته المواضيع الثلاثة المحرم نقاشها في المجتمع العربي: الدين والجنس والسياسة، وكل ذلك يتكشف لنا عبر علاقات الشخصيات وتفاعلاتها مع أنفسها، ومع بعضها، ومع العالم من حولها بدءًا من المجتمع الصغير في قرية جبل الجوفة وحتى المناطق الأخرى في العاصمة عمّان.

[تحذير للقارئ: الفقرات الأربع التالية الملوّنة بالأخضر قد تفسد عليك قراءة الرواية، فإن لم تكن قد قرأت الرواية بعد، أنصحك بتجاهل هذه الفقرات]

تبدأ الرواية بأسلوبٍ تشويقي مميز مع (سندس) بجملتها "عزمي الوجيه أذلني ثلاث مرات"، وسيعرف القارئ ظروف هذه المرات وملابساتها بمرور الأحداث. وسندس هذه فتاة ظلمتها ظروفها عندما أفسد أبوها عرسها فتشاجر مع أهل العريس، فتطلقت. ومع كثرة كلام النسوة المتزوجات ومعاكسة الشباب لم تستطع مقاومة رغباتها الجسدية، فرضخت لملاحقات (رباح الوجيه) للزواج منها رغم أنها أصغر منه بـ27 عامًا. ولكن رباح ما يلبث أن يفشل في مجاراة غرائزها ويخونه جسده، فينهزم أمامها وينكسر، وستكون هذه هي نقطة التحول والجموح في شخصية سندس، حيث تتعلق بابن زوجها (عزمي) وتراوده عن نفسه دون هوادة، متسلحة بأنوثتها الطاغية و موهبة الغواية التي تتمتع بها كما وصفها عزمي. ويظلّ تعلقها بعزمي يزداد كلما أذلها وتمنّع عنها، ورغم زواجها برباح وبـ(صبري أبو حصة) لاحقًا، إلا أنها لا تنفك تبحث عن فراش عزمي.

أما عزمي الوجيه فهو شخصية فريدة من نوعها يتمتع بذكاء حاد وكبرياء وثقة بالنفس وسحر على الآخرين، استقلالي منذ شبابه، لم يأبه ببخلِ أبيه ولم يرضخ له، وانضم إلى حلقات دروس الشيخ (عبد الحميد الجنزير). يُعجَب الشيخ بذكائه الفائق وشخصيته القوية دونًا عن جميع أقرانه فيقربه منه ويكلفه بمهام عديدة يبرع في تنفيذها، ويصبح ذراعًا يُمنى للشيخ إلى أن يصبحا شريكين لاحقًا في مشاريع كثيرة. أما نقطة التحول في حياة عزمي فتحدث حين يكتشف سرًا خفيًا في حياة الشيخ الجنزير، وبذلك تسقط أقنعة الدين والأخلاق فيشقّ حياته بأسلوبٍ مختلف ليصنع اسمه ومجده وثروته، ولكن يبدو أن نبوءة زوجة خاله لم تخل من الصحة: "من يريد كل شيء لا يحصل على شيء" (ص112).

وأما الشيخ عبدالحميد الجنزير فهو "رجل الدين" الجليل الذي يعطي الدروس الدينية وينفق على الطلاب، ويجمع الأموال للمشاريع الخيرية، ويداوي الناس بالأعشاب، ويطرد الجن والشياطين. متزوج من امرأتين ولكنه لا يسكن معهما، بينما يتمتع بأجساد النساء اللاتي يأتين إليه للعلاج. الشيخ الجنزير رمزُ لأولئك الذين يتخذون الدين إطارًا يعملون فيه لتحقيق غاياتٍ عديدة، ولا مانع لديهم من مُحالفة الشيطان نفسه إن كان سيوصلهم إلى بغيتهم.

وأما (جبران) خال عزمي فهو المناضل الماركسي الذي دخل المعتقل السياسي مُكافحًا في سبيل قضية المحرومين والطبقة الكادحة. فجأة وبُعيد احتلال الجيش الإسرائيلي لبيروت يترك جبران القرية ويسكن في إحدى مناطق الأثرياء، فتنمو الشائعات حول مصدر أمواله وتشكك في نزاهته. مع حضور الثروة تبدأ زوجته محدثة النعمة في التغيّر، فلا تخالط معارفها الفقراء، ويبدأ هو كذلك في تجنبهم، ونجدها تربي طفليها تربية برجوازية جديدة وتتصرف مثل نساء الأثرياء إلى درجة أنها تشتري قطة شيرازية تربيها. يحاول جبران مقاومة هذه النزعة الجديدة، ويقول عن نفسه أنه لم يتنكر لأفكاره الماركسية، وإنما يقصرها على الجانب السياسي دون الاجتماعي، إلا أننا نجده تدريجيًا يتحول إلى شخص رأسمالي حقيقي، وانتهازي متسلق يبحث عن المنصب بكل قوة.

هذه الرواية تحاول كشف المستور عن خفايا المجتمع والتحولات الفكرية والأخلاقية فيه تبعًا لتطور الأحداث السياسية والاقتصادية في الأردن، فنجدها تسخر من التقارب العجيب بين التيارين اليميني واليساري، لا إيمانًا بالحوار أو الديمقراطية، بل لتحقيق المصالح. ونجد كذلك إشاراتٍ إلى الفساد السياسي، والبطالة، والانحراف والتطرف في بعض من ينتسب للجماعات الدينية. ليس من الغريب إذن أن يُحتفى بهذه الرواية في الأردن كونها تناقش قضايا من هموم المجتمع.

ومن جماليات الرواية أيضًا اللغة التي كتب بها جمال ناجي الرواية، فنلاحظ لغة بسيطة لا تهدف إلى التفاصح أو فتل العضلات اللغوية، ولكنها في الوقت نفسه سليمة جميلة وثريّة، ولا تخلو من عبارات كالحكم، مثل: "كيف يمكنه عقد السلام مع النجاح إذا كان يحاربه حين يمتلكه الآخرون؟" (ص109). أما الجانب الأبرز في اللغة فيتجلى في اعتناء المؤلف بأن تكون لغة الشخصية نابعة من الخطاب الذي تنتمي إليه، فنجد ألفاظًا وعبارات من المناخ الذي تعيش فيه الشخصية وتفكر في إطاره (الخطاب السياسي لدى جبران، والخطاب الديني لدى الشيخ الجنزير وبكر الطايل، مثلا). ومما يُلاحظ أيضًا أن الحوار حاول التقريب بين العامية والفصحى، فاستخدم مفردات أو عبارات عامية لا تبتعد كثيرًا عن الفصحى، مثل: "عادي/نسوان/جهزي حالك/مفعوصة/عليها القيمة/الشور شورها/احكي مثل الأوادم".

ورغم ما ذكرناه آنفًا من عناصر إيجابية في الرواية، وجدتُ بعض الأجزاء لم يُوفق المؤلف في "سبكها" وبدت لي غير مقنعة أو غير مبررة. فمثلا انتقام سندس من زوجها الثالث بعد موته هو عمل وحشي إجرامي، ولا يوجد في شخصية سندس اللعوب ما يدعم هذه النزعة الإجرامية أو حتى المبالغة في رد الفعل، كما أنه لا يضيف أي شيء لقيمة الرواية وما كانت لتخسر شيئا من دونه. ومن جانبٍ آخر نجد أن تصرفات هذا الزوج الثالث غريبة وغير مبررة، فما الذي يجعله يقبل أن يشتري عزمي لسندس شقة وسيارة؟! هذا ويأتي في أواخر الرواية مشهد يصف مطاردات المباحث لعزمي وقدرته على التخفي والهروب والمراوغة والتنكر، بينما لا نجد في شخصية عزمي ما يجعله (جيمس بوند) فجأة هكذا! أما السر الأكبر الذي تعتمد عليه الرواية ولا يُكشف إلا في السطر الأخير منها فلم يبرع جمال ناجي في صناعته والحفاظ عليه، حيث هناك الكثير من الإشارات التي تجعل القارئ قادرًا على معرفته قبل الصفحة الأخيرة بكثير.

لا شكّ أن جمال ناجي أخرج نصًا ممتعًا، إلا أنني أتساءل عن الجديد الذي جاءت به هذه الرواية لتكون في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، فالمتدين المنافق والسياسي الفاسد، والمتدين المتطرف، والزوجة الصغيرة اللعوب كلها صور استهلكتها المسلسلات العربية مؤخرًا، ويُفضل لو تم تناولها بشكلٍ جديد غير مألوف. ربما أفضل ما أنجزه جمال ناجي هو إتقانه لتطوّر الشخصيات وانتقالها من البراءة إلى الانحراف الكامن فيها الذي كان ينتظر شيئا ما ليخرج، وهذا الإتقان في الحقيقة يحتاج إلى روائي ماهر.

لنشر الموضوع على الفيس بوك والتويتر Twitter Facebook

0 comments:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.