أصدرت دار الشروق مؤخرًا كتاب "فقه الوسطية الإسلامية والتجديد، معالم ومنارات" للشيخ الدكتور (يوسف القرضاوي). وإليكم نبذة عن الكتاب من موقع الدار:
لقد أكرمني الله تعالى بتبنِّي تيار الوسطية، ومنهج الوسطية من قديم، ولم يكن ذلك اعتباطًا، ولا تقليدًا لأحد، أو اتباعًا لهوى، ولكن لما قام عندي من الدلائل الناصعة، والبراهين القاطعة، على أنَّ هذا المنهج هو الذي يُعبِّر عن حقيقة الإسلام. لا أعني إسلام بلد من البلدان، ولا فرقة من الفرق، ولا مذهب من المذاهب، ولا جماعة من الجماعات، ولا عصر من العصور, بل عَنَيْتُ به «الإسلام الأول» قبل أن تشوبه الشوائب، وتلحق به الزوائد والمبتدعات، وتُكدِّر صفاءه الخلافات المُفرِّقة للأمة، ويُصيبه رَذاذٌ من نِحَل الأُمم التي دخلت فيه، والتصقت به أفكار دخيلة عليه، وثقافات غريبة عنه. وقبل أن تصنَّف أمّته إلى فرق وجماعات شتى، تنتسب إلى زيد أو عمرو من النـاس، فحسبنا أنها تنتمي إلى القرآن الحكيم، وإلى الرسول الكريم.
ولمعرفة المزيد عن الكتاب إليكم ما نُشر في جريدة العرب القطرية:
د. القرضاوي: الشيخة موزة أمرت بالإعلان عن «مركز القرضاوي للوسطية» فخرج مشروع حياتي للنور
2010-08-11
حلقات أعدها للنشر - محمد صبره
خص العلامة د. يوسف القرضاوي «العرب» بنشر أحدث كتبه «فقه الوسطيَّة الإسلاميَّة والتَّجديد معالم ومنارات»، وسيصدر بعد رمضان عقب الانتهاء من النشر.
الكتاب يقع في 225 صفحة، ويتضمن الركائز الأساسية لفكر «الوسطية» الذي يتبناه القرضاوي ويدعو إليه ويدافع عنه. ويرى أنه سبيل نهضة الأمة من كبوتها.
يحتوي الكتاب على مقدمة للمؤلف بعنوان «صلتي بالوسطية، وتركيزي على الوسطية من قديم».
ويليها حديث عن كتاب «الحلال والحرام في الإسلام» ومنهج الوسطية فيه، وتأكيد على أن منهج الوسطية قائم منذ طلوع فجر الصحوة الإسلامية المعاصرة.
ويتضمن إشارة إلى رفض بعض المتدينين منهج القرضاوي الوسطي وعودتهم إليه وتبنيهم له، وبيان معالم الوسطية التي يدعو إليها المؤلف، وتأكيد على أنها خصيصة بارزة للأمة الإسلامية، وأنها تعني العدل والاستقامة والخيريَّة والأمان والقوة والوحدة.
ويوضح مظاهر الوسطية في الاعتقاد، وفي العبادات والشعائر، وفي الأخلاق، وفي التشريع والنظم، وفي التحليل والتحريم، وفي شؤون الأسرة، وفي السّلم والحرب، وفي التوازن بين الفرديَّة والجماعيَّة.
ويعرض لتخبط الفلسفات القديمة، وتناقض اليهودية والنصرانية، وتناقض المذاهب المعاصرة وصراعها حول الوسطية . ويبين موقف الإسلام الفريد بين الطرفين.
ويعدد مظاهر الوسطية في السنة النبوية مثل: رفض مظاهر الرهبانية وغلوها، وشرعية اللهو والضحك والمزاح، ولا سيما في الأعراس، والحث على التجمل وإظهار آثار النعمة.
ويرصد التصورات الخاطئة حول مفهوم الوسطية، ويرد على دعوى أنه لا يوجد شيء اسمه الوسطية.
ويستشهد بآراء كبار العلماء قديما وحديثا على أن الوسطية من خصائص الاسلام مثل: ابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي من القدامى، ومحمد عبده، ورشيد رضا، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد المدني، والشيخ محمد عبد الله دراز، والشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ حسن البنا، والشيخ عبد الحميد بن باديس، والشيخ الطاهر بن عاشور، والأستاذ علال الفاسي، والعلامة جمال الدين القاسمي، والفقيه الكبير مصطفى الزرقا، والفقيه الداعية الكبير مصطفى السباعي، والداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي، وسيد قطب.
ويوضح أن الوسطية لا تعني التساهل في الدين، ويدعو لتقديم الأيسر على الأحوط في زماننا، وأن الوسطية لا تعني الرضا بالدون وبالحد الأدنى.
ويطالب بالوسطية في ميدان الدعوة والإرشاد بين السلفية والصوفية (نسلّف الصوفية ونصوّف السلفية).
ويحدد الموقف من الحضارة الغربية هل نذوب فيها أم نرفضها بالكامل.
ويخلص في نهاية الكتاب إلى «30 معلما» من معالم المنهج أو التيار الوسطي التجديدي أبرزها:
- العلم الراسخ، والفهم الشامل والمتوازن للإسلام.
- الإيمان بمرجعية القرآن والسنة وتأسيس العقيدة على الإيمان والتوحيد.
- الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- تجديد الدين من داخله والاجتهاد من أهله في محله.
- إنصاف المرأة وتكريمها.
- إقامة الدولة العادلة حاملة الدعوة.
- تقوية اقتصاد الأمة وإقامته على أُسس إسلامية.
- الإيمان بضرورة التعددية والتعارف والتسامح بين الشعوب.
- الرقي بالفنون وتوظيفها في خدمة رسالة الأمة.
- السلام مع المسالمين والجهاد ضد المعتدين.
- العناية بالأقليات الإسلامية في العالم.
- تبني منهج التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة.
- إصلاح الأنظمة السياسية المستبدة.
وسنبدأ في نشر الكتاب حصرياً على حلقات يومياً طوال الشهر الفضيل.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبتوفيقه تتحقق المقاصد والغايات، وبفضله تتنزل الخيرات والرحمات، الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وأزكى صلوات الله وتسليماته على صَفْوة خلقه، وخاتم رسله، محمد بن عبد الله، الذي أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، ونعمة على المؤمنين، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
ورضي الله عن آله وأصحابه الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} [الأعراف:156، 157]، ورضي الله عمن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(أما بعد)
فقد وفقني الله تعالى -منذ دخلت ميدان الدعوة والإفتاء والتعليم- بفضله ومنَّته، إلى الالتزام بالمنهج الوسطي المُجدِّد المتوازن، الذي يمثل منهج الأمة الوسط، كما سمَّاها كتاب الله الكريم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] بعيداً عن تحريف الغالين المتنطعين، وتزييف المتسيّبين المفرّطين. وهو منهج النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذي أشار إليه القرآن في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6، 7]، وهو الدعاء القرآني الذي يجب على كل مسلم أن يكرره في صلواته كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل إذا اقتصر على الفرائض.
كما أشار إليه القرآن مرة أخرى، في حديثه تعالى عن «الميزان العام» الذي غرسه الله في الفطر والعقول، وقرنه تارة بإنزال الكتاب، وتارة برفع السماء. فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى:17]، {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7-9]. فهنا نبّه القرآن إلى المنهج الذي لا طغيان فيه ولا إخسار في الميزان. أي: لا غُلوَّ ولا تقصير، لا إفراط ولا تفريط. وهو المنهج الوسط الذي ندعو إليه.
وهو منهج تلاءم مع فطرتي وعقلي، وانسجم مع فهمي للإسلام من ينابيعه الصافية، كما تواءم مع منطق العصر، وحاجات الأمة فيه، وعلاقتها بغيرها من الأمم في عصر تقارب الناس فيه حتى غدا العالم قرية واحدة.
وقد نذرت لهذا المنهج نفسي وعمري، وأعطيته فكري ووجداني، ودعوت إليه بلساني وقلمي: إذا حاضرت أو خطبت، وإذا فقّهت أو أفتيت، وإذا علَّمت أو ربَّيت، في كل آليات اتِّصالي بالناس: على المنبر في المسجد، أو في قاعة المحاضرة، أو في حلبة التأليف، أو على شاشات الفضائيات، أو على الإنترنت.
وقد كنت من عدة سنين كتبت مشروعاً تحت عنوان «الأمة الوسط» يُعنى بهذا المنهج، على أن تنشأ له مؤسسة تقوم عليه، قدَّمته لسمو الشيخة موزة بنت ناصر المسند حرم سمو أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة حفظهما الله، بيَّنت فيه مَدَى الحاجة إلى هذا المنهج، ولماذا طلبتُ من قطر أن تتبنّاه؟ واخترت الشيخة موزة بالذات لما أعلم من شجاعتها في تبنِّي المشروعات الكبيرة، وقدرتها على التنفيذ. وقد ساعدتني من قبل في مشروع «إسلام أون لاين نت» في الفترة الحرجة في بداية تأسيسه، ولا غرو أن تتبنَّى هذا المشروع.
وبعد مشاورات معها، انتهينا إلى أنَّ من الخير البدء بمشروع كلية الدراسات الإسلامية، التي طالبتني بوضع فلسفتها، وبيان أهدافها واتجاهها، وتأسيس لجنة عليا، للتخطيط لها، والإشراف عليها، وأكَّدت لي أن من خلال هذه الكلية يمكن أن يقوم مشروعك الطموح، باعتباره جزءاً فعّالاً من مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع.
والحمد لله، قامت الكلية المنشودة، بعد دراسات واجتماعات، وتحضيرات، استمرت فترة غير قصيرة، قامت بها اللجنة الاستشارية العليا، التي أتشرف برئاستها، وأثبتت الكلية وجودها على الساحة بحمد الله.
وفي العام الماضي (2008م) في احتفال المؤسسة بتخريج أول دفعة لها، أمرت الشيخة موزة بالإعلان عن «مركز القرضاوي للوسطية الإسلامية والتجديد» فأعلن ذلك عميد كلية الدراسات الإسلامية الأستاذ الدكتور حاتم القرنشاوي حفظه الله، وسط ترحيب الحضور، وعلى رأسهم سمو الأمير الشيخ حمد وحرمه.
ومنذ ذلك الوقت بدأ العمل الجاد لإخراج المركز إلى عالم التنفيذ، وعُيِّن له مدير كفء ذو خبرة يعتد بها، هو الأخ الأستاذ الدكتور محمد خليفة حسن من مصر، وعُيِّن معه الشاب الباحث المتفتح النابه محمد المختار الشنقيطي من موريتانيا، ثم لحق بهما العالم الباحث الداعية النابه الشيخ مجد مكي من سورية، ثم عُيِّن اثنان آخران، من شباب العلماء الواعين.
هذا وقد كنت كتبت كلمات في مفهوم الوسطية ومعالمها المميِّزة لمنهجها، الذي أصبح اليوم يمثِّل تياراً قويّاً يسنده جمهور الأمة، ويتبنَّى جملة من المفاهيم والمبادئ والقيم الأساسية، التي تقدِّم الإسلام الحي المتوازن المنشود في خطوط عريضة، ولكنها واضحة التقاسيم، بيّنة الملامح.
ذلك أن من أشدِّ الأمور خطراً: ترك المصطلحات الكبيرة مثل الوسطية أو التجديد دون توضيح للمقصود، ودون شرح لمعناها وماهيتها، شرحاً يلقي الضوء الكاشف على مُقوِّماتها وخصائصها، وأهدافها ومناهجها، ويُزيح الغبار عن حقائقها، ويردّ على أباطيل خصومها، ويفنّد شبهات معارضيها.
وبذلك يتَّضح صراط المؤمنين، وتستبين سبيل المجرمين كذلك، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
وبعبارة أخرى: يتبيَّن لنا صراط الله المستقيم، وتتبيَّن السبل العُوج الأخرى عن يمينه وعن شماله، كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، وكما جاء في حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّاً، ثم قال: «هذا سبيل الله»، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: «هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه»، ثم تلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] .
وقد نشر مركز الوسطية بالكويت هذه الكلمات في طبعتها الأولى، وقدم لها الأمين العام للمركز في ذلك الوقت أخونا العالم الداعية المعروف الدكتور عصام البشير حفظه الله.
والآن أعيد النظر فيها مرة أخرى، وخصوصاً بعد أن غدا مركز القرضاوي يحمل عنوان الوسطية والتجديد، لأضيف إليها معالم جديدة، رأيتها غاية في الأهمية، ودمجتُ بعض المعالم في بعض، وقمتُ بما يسَّر الله من إضافة وتحسين ومزيد من الشرح النسبي، مستفيداً مما كتبته من قديم في عدد من كتبي، إلى أن يُهيئ الله لي شرحها بإفاضة وتفصيل. كما أني رتَّبتها ترتيباً جديداً أقرب إلى المنطق من ترتيبها القديم، لتظهر على الصورة المُثْلى، ما أمكن ذلك. والمؤمن يجتهد أن يرتقي أبداً من حسن إلى أحسن، ومن أحسن إلى الأحسن، كما هو توجيه القرآن، الذي علَّمنا أن الله خلق السموات والأرض، وخلق الموت والحياة ليبلونا: أينا أحسن عملا!
وبهذا أصبحت كتاباً جديداً، بعنوان جديد، أضعاف الأول في حجمه، يقوم بنشره مركز القرضاوي للوسطية الإسلامية والتجديد بالدوحة، لتكون المنشور الثاني للمركز بعد نشر كتابي الكبير «فقه الجهاد».
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذه الدراسة، وبهذا المركز، وأن يجعله منارة هدى للحق، ومنبر دعوة إلى الخير، وقلعة دفاع عن الدين، ولسان صدق لرسالة الوسطية الإسلامية، والتجديد الإسلامي، على ضوء كتاب الله الكريم، وسنة رسوله ذي الخلق العظيم {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101].
كما أسأله سبحانه أن يجعل ما يقدمه هذا المركز من خير للأمة في ميزان دولة قطر وأميرها وحرمه، بارك الله في جهودهما، وجزاهما الله خيراً عن الإسلام ودعوته وأمته. إنه سميع مجيب.
الفصل الأول: مفهوم الوسطية ودلالتها
مفهوم الوسطية في اللغة:
يجدر بنا هنا أن نمهّد ببحث لغوي موثّق عن مفهوم (الوسطية) في لغتنا العربية.
والمعروف أن لفظة الوسطية هي مصدر صناعي منسوب إلى كلمة (الوسط). و(الوسط) اسم مشتق من: وسَط يسِط سِطة، على وزن: وعد يعد عدة.
والمادة (و س ط) قد وردت في القرآن: اسمًا، وفعلاً، وصفة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28]، {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} [العاديات: 5]، {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89].
في معجم ألفاظ القرآن:
وجاء في معجم ألفاظ القرآن الكريم، الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة:
وسَطَ الشيءَ يِسِطه وسْطًا وسِطَة: كان بين طرفيه. تقول: وسطت الطريق، ووسطت القوم.
وسَطْن: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات: 4و5].
الأوسط اسم تفضيل من وَسَط، وأنثاه الوسطى. والأوسط يأتي في معنى الأقرب إلى الاعتدال والقصد والأبعد عن الغلوّ في الجودة والرداءة ونحوها. ويأتي في معنى الأفضل إذا كان أوسط الشيء محميًّا من العوارض التي تلحق الأطراف.
والوُسطى تأتي في معنى الواقعة بين شيئين، وبمعنى الفُضْلى، كما قيل في الأوسط.
أوْسَط: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]. المراد: أن يكون أقرب إلى الاعتدال بين الإسراف والتقتير.
أوسطهم: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28]، أوسطهم: أفضلهم رأيا.
الوسطى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، الوسطى: المتوسطة، فقيل: هي صلاة العصر لتوسّطها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل، وقيل غيرها، أو الوسطى: الفضلى، وقد اختلف في تعيينها أيضًا.
الوسط للشيء: ما بين طرفيه. ويستعمل الوَسَط في الفضائل إذا كانت وسطًا بين الرذائل، فالشجاعة وسط بين الجُبن والتّهور، وكذا سائر الفضائل، ثم جعل الوسط وصفًا للمتّصف بالفضائل فصار معناه الخيّر الفاضل. ومن شأن هذا أن يكون عدلاً في قضائه وشهادته. وهذا الوصف نظرًا إلى أصله يستوي في موصوفه، فلا يتغير لتغيّر موصوفه. يقال: رجل وسط وأمّة وسط.
وسَطًا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]).
في مفردات القرآن:
وقال الراغب في (مفردات القرآن):
وسط الشيء: ما له طرفان متساويا القدر، ويقال ذلك في الكميّة المتّصلة، كالجسم الواحد إذا قلتَ: وسطُه صَلْب، وضربتُ وسَط رأسه (بفتح السين).
ووَسْطٌ (بالسكون) يقال في الكمية المنفصلة، كشيء يَفصِل بين جسمين، نحو: وسْطُ القوم كذا.
والوسَط تارة يقال فيما له طرفان مذمومان.. فيستعمل استعمال القصد المَصُون عن الإفراط والتفريط، فيُمدح، نحوُ السواء والعدل، نحو: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وعلى ذلك قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28].
وتارة يقال فيما له طرف محمود وطرف مذموم كالخير والشر.. إلخ.
كلام ابن الأثير:
وقال ابن الأثير في مادة (و س ط) في النهاية في غريب الحديث والأثر:
(وفيه: (خير الأمور أوساطها)، كل خصلة محمودة فلها طرفان مذمومان، فإن السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كل وصف مذموم، وتجنبه بالتعري منه والبعد عنه، فكلما ازداد منه بُعدًا ازداد منه تعريًا. وأبعد الجهات والمقادير والمعاني من كل طرفين وسطهما، وهو غاية البعد عنهما، فإذا كان في الوسط فقد بعد عن الأطراف المذمومة بقدر الإمكان) ا.هـ.
معاجم اللغة الكبرى:
وقد أطال العلاّمة الزبيدي النفس في شرح المادة (وسط) من القاموس، بحيث استغرقت في كتابه (تاج العروس) ست عشرة صفحة بحسب طبعة الكويت، ونقل عن أئمة اللغة والشرّاح نقولاً مهمّة تُجلّي المفهوم وتزيده وضوحًا. قال رحمه الله نقلاً عن ابن برّي:
(اعلم أن الوسط بالتّحريك اسم لما بين طرفي الشيء، وهو منه، كقولك: قبضتُ وسط الحبل، وكسرتُ وسط الرمح، وجلستُ وسط الدار، ومنه المثل: (يرتقي وسطًا ويربِض حجرة) أي: يرتعي أوسط المرعى وخياره ما دام القوم في خير، فإذا أصابهم شرّ اعتزلهم، وربض حَجرة، أي ناحية منعزلاً عنهم. وجاء الوسط مُحرَّكًا أوسطه على وزن نقيضه في المعنى وهو الطَّرَف؛ لأن نقيض الشيء يتنزل منزلة نظيره في كثير من الأوزان، نحو: جوعان وشبعان وطويل وقصير..
قال: (واعلم أنَّ الوسط قد يأتي صفة، وإن كان أصله أن يكون اسمًا من جهة أنّ أوسط الشيء أفضله وخياره، كوسط المرعى خير من طرفيه، وكوسط الدابّة للركوب خير من طرفيها لتمكن الراكب. ومنه الحديث: «خيار الأمور أوساطها». وقول الراجز:
إذا ركبتُ فاجعلاني وسطاً
فلمّا كان وسط الشيء أفضله وأعدله جاز أن يقع صفة، وذلك مثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أي: عدلاً، فهذا تفسير الوسط وحقيقة معناه، وأنه اسم لما بين طرفي الشيء وهو منه).
قال الزّجاج في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]: فيه قولان: قال بعضهم: أي عدلاً، وقال بعضهم: خيارًا، واللّفظان مختلفان والمعنى واحد؛ لأن العدل خير والخير عدل.
قال في القاموس: وسَط الشيء (محرّكة): ما بين طرفيه. قال:
إذا رحلتُ فاجعلوني وسطاً إني كبير لا أطيق العُنَّدا
أي: اجعلوني وسطًا لكم ترفقون بي وتحفظونني، فإني أخاف –إذا كنت وحدي، أو متقدمًا عليكم، أو متأخرًا عنكم– أن تفرُط دابّتي أو ناقتي، فتصْرَعَني.
وفيه: الوسيط: المتوسّط بين المتخاصمين. وفي العباب: بين القوم.
وُسُوط الشمس: توسّطها في السماء.
وواسطة القلادة: الدرة التي في وسطها، وهي أنفس خرزها.
ودين وسوط كصبور: متوسط بين الغالي والتالي.
و(واسط) بلد بناه الحجاج بن يوسف الثقفي بين الكوفة والبصرة، ولذلك سمي (واسطا) لأنه متوسط بينهما؛ لأن منه إلى كل منهما خمسين فرسخا.
وفي (لسان العرب) نحو ما في (تاج العروس).
وقال الزمخشري في (أساس البلاغة): خلاصة ما ذكرناه هنا: وسط، جلس وسَطَ الدار، وضرب وسَطه وأوساطهم، وهو أوسط أولاده، وهي وُسْطى بناته.
ووسَط القوم، وتوسَّطهم: حصل في وَسَطِهم. وتوسّطت الشمسُ السماءَ. ووسَّطته القوم. وتوسّط بين الخصوم. ووسَّطتُه. وهي واسطة القلادة، ووسائط القلائد.
ثم قال: ومن المجاز: هو وسَطٌ في قومه، وسِطَةٌ ووسِيط فيهم. وقد وُسِط وساطة، وهم وسَطٌ ووساط: خيار.. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]. وقال زهير:
همُ وسطٌ يرضى الأنامُ بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمُعظَمِ!
وقال أعرابي للحسن: علّمني دينًا وسُوطًا، لا ذاهبًا فروطًا، ولا ساقطًا سقوطًا!
ومن المعاني التي وردت في كتب اللغة عن الوسط والتوسّط، قولهم: توسّط فلان: أي أخذ الوسط بين الجيد والرديء، وهذا المعنى يستخدم عرفا. وهذا بعيد عن الوسطية التي نريدها؛ لأن وسطيتنا تعني خيار الشيء وأمثله وأفضله، فهي أشبه بالنجاح بدرجة ممتاز أو جيد جدا، بخلاف الوسط بالمعنى الذي أشرنا إليه، فإنه أشبه بدرجة (مقبول).
ومن خلال ما سجّلنا هنا من كلام اللغويين، وشعر الشعراء، وتعليقات الأدباء والعلماء: يتبيّن لنا: أن معنى (الوسط) –ومنه الوسطية– في الأساس، هو الوجود في المكان الوسَط، بعيدا عن الطرفين أو الأطراف، لأن الوسط محمي ومحروس ومحاط من الجانبين، ولا يتعرّض لما يتعرّض له الطرف باستمرار من خطر وآفة، وما عدا ذلك، مثل: العدل، والخيار، فهو –كما قال الزمخشري– مجاز، متفرّع عنه، ومترتّب عليه. وهذا المعنى الذي تجلّى لنا من خلال هذه الرؤية اللغوية البصيرة، هو لب المعنى الشرعي الإسلامي للوسطية الذي اخترناه، والذي تشهد له كل الأدلّة الشرعية المعتبرة من كتاب الله وسنة رسول الله، كما سيتّضح لنا ذلك من خلال الفصل القادم.
لقراءة نصّ الموضوع كاملا»