قراءاتكم: كتاب "الآلهة التي تفشل دائمًا" لإدوارد سعيد (قراءة الخنساء الموسى)الآلهة التي تفشل دائما
المؤلف :إدوارد سعيد
المترجم: حسام الدين خضور
الناشر: دار الكتاب العربي – التكوين للطباعة والنشر
الكتاب هو تجربتي الأولى للدخول في عالم ادوارد سعيد، حاولت قراءته قبل عام، لكن عدم جودة الترجمة، وعدم اكتراثي بالموضوع حينها دفعني للتوقف بعد الباب الثاني.
قبل فترة تناقشت مع زميلة حول المثقفين، ووجدتني مندفعة لقراءة هذا الكتاب مرة أخرى، وبنفس الترجمة، رغم حصولي عليه بترجمة أخرى تحت عنوان المثقف والسلطة، لكني آثرت قراءة هذه النسخة.
للكتاب ترجمة ثالثة أيضا بعنوان صور المثقف، وأجدني أميل حقيقة لعنوان الآلهة التي تفشل دائما، أكثر من أي عنوان آخر.
الكتاب هو سلسلة محاضرات ألقاها ادوارد سعيد في إذاعة بي بي سي عام 1992م.
ادوارد سعيد يرى المثقف شخص نخبوي، ذو رسالة، و لا منتم، ولا يكتسب رزقه من المعرفة، و ناقد للوضع الحالي، بغية إصلاحه، أو كما يصفه "منفي، هامشي، هاو، و مؤلف لغة تحاول أن تقول الحقيقة للسلطة".
يأتي الكتاب في 6 أبواب كان الباب الأول منها حول صور المثقف، وفيه حاول ادوارد سعيد توضيح صورة المثقف بتعديد صفاته، و ما خرجت منه في هذا الباب هو أن المثقف شخص يحمل رسالة ما، سواء قام بخدمتها أو لا، وقضية خدمة الرسالة هذه هي مثار الجدل دائما.
في هذا الباب أيضا وضح ادوارد سعيد هدفه من الكتاب، وهو أن انحراف المثقفين عن رسالتهم هي القضية التي دفعته لمناقشة هذا الموضوع، ولم يفته الإشارة على نخبوية طبقة المثقفين والتأكيد عليها بدءا من هذا الباب.
تعرض هنا أيضا لعدد من التعريفات التي وضعها بعض الكتاب وغيرهم للمثقف، وناقشها ليؤكد على انه لا يوجد تعريف محدد و ثابت للمثقف، وهو ما يصعب المهمة على مريدي تحديد وظيفة المثقف، ورسالته في المجتمع.
تركيز ادوارد سعيد على صفة يرى أنها الأهم للمثقف، وهي الحس النقدي، أي قدرة المثقف على النقد وانتقاد السائد اجتماعيا، وسياسيا، وحسب قوله عدم تقبله للصيغ الجاهزة، و الأفكار المختزلة، وليس هذا فحسب و إنما القدرة على الاعتراض علانية.
الباب الثاني جاء تحت عنوان ضبط الأمم والتقاليد في وضع حرج، وفيه أكد سعيد على أنه لا يوجد مفهوم محدد لمعنى أن يكون المرء مثقفا. ليؤكد على صعوبة تحديد مهامه والمفاهيم المتعلقة حوله، وتحدث عن علاقة المثقف بمجتمعه بدءا من لهجة الخطاب التي يجب أن تكون قومية، أي ليست ذات لهجة غريبة عن المجتمع، لان من يتبنى الإصلاح ويود إيصال رسالة لمجتمع ما، أول ما عليه الالتزام به هو لهجة الخطاب، والتي يجب أن تكون من نفس البيئة، وألا يستورد صيغا أو لهجات من أماكن أخرى.
هذه النقطة بالذات اعتقد أن كثيرا من مثقفي العالم الثالث لا يعونها، أو حتى لو عرفوا بها لا يطبقونها، جهلا بها، أو لانعدام وجود المعرفة الكافية بمجتمعاتهم، وانشغالهم ربما بتجارب غيرهم أنساهم ذلك، و أبعدهم عن المجتمع الذي يعيشون فيه، لذلك لا تلقى كثير من دعواهم أي صدى، وتقابل بالتجاهل لابتعاد أفكارها ولهجتها، حتى على بني قومهم، لذلك أكد المؤلف هنا على خصوصية كل مجتمع وأمة.
تحدث هنا عن معضلة كبرى تحدث دائما و هي خيانة المثقفين، وان المثقفين حسب تقسيم عالم الاجتماع ادوارد شلز، ينقسمون لقسمين، فهم إما سابحين مع التيار ومتكيفين مع الأمة، أو معارضين ومنتقدين (وأكد طبعا انه ليس الاعتراض لمجرد الاعتراض)، وهو الدور الأبرز الذي يؤكد عليه سعيد، وخطورة خيانة المثقفين على كل الأمم، هو وجود أمة من الناس تتبعهم أولا، خصوصا في حال تبريرهم للفساد الحاصل، والمظالم الني تقع عليهم، و إيجاد المبررات و الأعذار (والتي يكون إيجادها واختلاقها سهلا بالنسبة للمثقفين)، و ربما تشريع جميع ما تقوم به السلطات، وأنظمة الحكم من أخطاء، وهذه من المصائب التي تبتلى بها الأمم.
مهمة المثقف الأبرز لدى ادوارد سعيد هي التعبير عن رأيه المعارض، والمطالبة بحقوق شعبه و التذكير بها، والمظالم التي وقعت له، أو مازال تحت وطئتها، ولم يفته الإشارة على انه إضافة لذلك على المثقف أن يتملك الجرأة للحديث حتى حول الجرائم التي ارتكبها شعبه يوما، أو مازال يرتكبها! وهي المهمة التي اعترف بصعوبتها، ولكن دون تقليل من أهمية وجوبها.
الفصل الثالث تحت عنوان المنفى الثقافي مبعدون و مهمشون، أسهب في الحديث حول صفات المنفيين، وتحدث حول التغييرات التي تحدث للإنسان بسبب النفي، وكونه يعيش حالة وسط لا هو منتم بشكل كامل للمجتمع الذي يعيش فيه، ولا يستطيع التمسك بالانتماء لمجتمعه الأصلي البعيد عنه، وحتى المشاعر الداخلية والأحاسيس التي تمزق المنفي تحدث عنها ادوارد سعيد.
ما يهمني في هذا الباب هو أن ادوارد سعيد لم يقصد أبدا النفي بمعنى الابتعاد عن الأوطان، ولكن كان يقصد الغربة الداخلية للشخص، أو إحساس المثقف بلا انتماء لحزب، أو تيار، أو غيره، ولكن ليس الانفصال بشكل كلي، إنما ذلك الإحساس الذي يمنح للحس النقدي بالظهور، والذي يعطي المساحة للنقد، ولاكتشاف الأخطاء، ولان مجاراة التيار غالبا، والاندماج بشكل تام مع المجتمع، أو البيئة، سيفرض على المرء التغاضي عن الأخطاء، و السكوت عنها، وسيفرض على المثقف بعضا من الأنماط، سواء في التفكير، أو الحديث، أو غيره، والتي يفترض أن يتحرر منها، وبالتالي سيخفت الحس النقدي لدي المثقف، لأن ضريبة الذوبان في مجتمع، أو الانتماء لحزب هي السكوت عن الأخطاء الموجودة، والتخفيف من حدة النقد بل ربما تبرير الحالي، وسيصعب عليه التفكير بحيادية مرات، أو حتى النهوض بإصلاحات، أو طرح النقد، أو الأفكار، لأنها ستجعله منبوذا غالبا، لذا وجب على المثقف الشعور بالنفي حتى يُؤدي رسالته،
فكرة ادوارد سعيد هنا أيضا تعزز من فكرته حول نخبوية المثقف.
الفصل الرابع جاء تحت عنوان محترفون وهواة، وفيه قسم المؤلف المثقفين إلى نوعين المثقفين المحترفين، و هم المثقفين بسبب التخصص الأكاديمي في الجامعات مثلا، أو مجال العمل في مراكز الأبحاث، أو المؤسسات التعليمية، أو الصحف، و دور النشر، وبالتالي يخضعون لسيطرة المؤسسات، ويندفع للكتابة والتأليف لنيل المناصب، و الجوائز، والمكافآت، وتكون الثقافة مصدر زرق لهم، و القسم الآخر المثقفين الهواة، و هم الذين يندفعون للكتابة والتأليف والنقد، تبعا لنداء داخلي، و رغبة في التغيير و الإصلاح، دون أن يتبعوا مركز دراسات معين، أو حزب، أو جامعة، ولا يطمحوا لنيل الجوائز، أو المكافآت، أو يتزلفوا إلى السلطة، للحصول عليها، ولا تكون الثقافة هي مهنة لهم، أو مصدر دخل، ليسهل عليه الاعتراض، ولأنه يرى أن الحس النقدي يخفت في حال الانتماء لمؤسسة تعليمية، أو ثقافية، أو تيار، وسيفضل المثقف المسايرة بدلا عن المعارضة.
الفصل الخامس جاء تحت عنوان قول الحقيقة للسلطة، تحدث ادوارد سعيد عن رسالة المثقف –حدده بالمثقف العلماني- الرئيسية، وهي الدفاع عن حرية الرأي والتعبير، و أن أي تساهل، أو تجاهل لهذه النقطة، فهو خيانة لرسالة المثقف.
يبدو واضحا بعد الانتهاء من هذا الفصل، ما هو مغزى ادوارد سعيد من هذا العنوان، هو يقصد بعدما عرج على توضيح رسالة المثقف، ومن ثم وضح كيف على المثقف النظر بحصافة لممارسات السلطات، و إحياء حسه النقدي تجاه ممارساتها، ومطالبتها بالحقوق، وإذا حدث ثمة تزوير، أو خطأ، توضيحه للعامة، والحرص على توضيح الحقائق المغيبة لهم، و المطالبة بإرساء العدالة، دون الاكتراث لمسألة ما يمكن أن يحدث لك من تلك السلطة، أو الخوف من تجنب المجتمع لك وابتعاد الجماهير عنك.
يتحدث أيضا عن مسألة المطالبة بالعدالة، وانه من سوء الأخلاق، و الخسة، أن يطالب المثقف ويناضل من اجل تحقيق العدالة لمجتمعه فقط، أو طائفته، و يغض الطرف عن المطالبة بها للجميع، خصوصا المختلفين عنه.
وضح مثالا لتلك النقطة للمثقف الفرنسي –ألكسي دو تكفيل-، الذي تحدث عن تصرفات أمريكا المناهضة للعدالة و الإنسانية، في كتاب كبير، في نفس الفترة الزمنية التي كانت فيها فرنسا ترتكب المجازر في الجزائر، و تحدث لتبريرها، لأنها تحدث لشعب لا يرى هو لأسباب عنصرية دينية –فهم مسلمون-، أنها تستحق الشجب، ولم يطبق عليها تلك المعايير التي استخدمها لشجب سلوكيات أمريكا !
قول الحقيقة للسلطة ليس معناه الاعتراض فقط، و إنما الاعتراض بشكل عقلاني، والمطالبة بالمعقول، وطرح الاعتراض بصيغة مناسبة، ولكن بدون تزوير، والدفاع عنه (الدفاع عن الرأي وليس صاحبه)، والالتزام بمعايير واضحة للاعتراض، وتطبيقها بصدق على كل الحالات التي يراها، أو يعيشها، و يتحدث عنها، وليس ذلك معناه التخلي عن الوطنية، أو الإضرار بها أيضا، والأخيرة نقطة مطاطية لدى العالم الثالث، يدخل تحتها الإصلاح، و المعارضة، والخيانة أيضا بلا تفرقة.
سؤالان ربما ترد بعد هذا الفصل وهما لمّ الاعتراض على السلطات؟ ولمّ على المثقف تحديدا الاعتراض؟
لمّ الاعتراض ؟ السؤال الأهم ويجيب عليه المؤلف بأنه لأجل التغيير الذي يهدف لإيصال الحقائق، وتحقيق العدالة.
ولمّ على المثقف الاعتراض؟ لأنه مؤهل أكثر من غيره بسبب وعيه، وإدراكه، ورؤيته النافذة للأمور، لرؤية الحقائق بشكل أوضح، وللمطالبة بها، والدفاع عنها أيضا.
في هذا الفصل وضح إدوارد سعيد رؤيته للمثقف، و رسالته، بشكل واضح، بعد أن وضح خصائصه في الباب الثالث، و علاقته بمجتمعه في الفصل الثاني، وفي الرابع حدد المثقف الذي يعنيه بكلامه، وفي هذا الفصل حدد مهمته، و كيفيتها.
الباب السادس والذي كان بعنوان الآلهة التي تفشل دائما، تحدث فيه عن المثقفين المتحولين، تارة شيوعيين، وتارة إسلاميين، وتارة رأسماليين، وأخرى بعثيين، وناصريين، وهكذا، يتحدث عن الانتماء لحزب، أو الإيمان بفكرة والتعصب لها، والدفاع عنها، و عن التحول عنها أيضا بعد ذلك، والانقلاب عليها وبشدة، والتنكر لمبادئها، وربما الإيمان بما يخالفها والتعصب له وهكذا.
هو يرى أن عملية التحول تلك هي انتقال من رب سياسي، إلى رب جديد فقط، وانتقال من أقصى اليسار لأقصى اليمين.
تطرق في الكتاب للمثقفين العرب، الذين كانوا قوميين، ومن ثم ناصريين، وماركسيين مرة، وبعدها رأسماليين، مؤيدين للثورة الإيرانية، ومروجين لأفكارها، وبعدها مهددين من خطر إيران.
تلك المراحل كلها بدئا من الإيمان إلى التنقل هذا، يرى أن على المثقف أن لا يخوضها، لأن تلك الآلهة التي سيؤمن بها ستخذله غالبا، وسيضطر للتحول أو الدفاع الخاسر والخجول عنها، ولن يستطيع أداء مهامه على أحسن وجه، فهو لن يستطيع النقد، و لن يسهل عليه النظر بدقة إلى الأمور، وسيخفت حسه النقدي تجاه ما يدور حوله، فإذا كان تابعا لها سيكون عليه التبرير، والتطبيل ربما، وسيكون أداة في يدها في كثير من الأحيان، سواء أدرك ذلك أو لم يدركه، و سيكون صوتا لآخرين، لكنه لن يكون صوته، أو صوت الحقيقة التي ينشدها، سيضيع الكثير بذلك الانتماء، حيث تكون أداة من أدوات السلطة، تملي عليك ما تريد هي قوله، لا ما تريد أنت.
ادوارد سعيد يحث المثقف على رفض الدور الذي تحدث عنه المتنبي في بيته القائل:
إذا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ سَيفاً لِدَوْلَةٍ *** فَفِي النَّاسِ بُوقَاتٌ لَهَا وَطُبُولُ
و باختصار هو يقول للمثقف لا تكن بوقا لأحد.
لقراءة نصّ الموضوع كاملا»