قراءاتكم: كتاب "الأسطورة والتراث" لسيد القمني (قراءة حمد الغيثي)
المقدمة:
في هذا الموضوع سنتناول كتاب "الأسطورة والتراث" لسيد القمني. لن يكون حديثاً عابراً، بل قراءة متفحصة كفيلة بعرض ما احتواه هذا الكتاب، ثم لنا بعد ذلك أن نقيِّم ردة فعلنا تجاه ما فيه. والكتاب لولبيُ البنية، فيبدأ الكاتب "ليؤسس" مشاهد جزئية لقراءه ثم يستخدمها لاحقاً في بناء الصورة الأكبر لاحقاً.
لهذا نبدأُ من المقدمة، مقدمة الكتاب التي أرادها الكاتب تأسيساً للقاريء، يبين فيها الكاتب رؤيته للأسطورة والدين والتراث، والعلاقة الهلامية التي ننظرُ بها لكلٍ مما سبق. وإنه يعرضُُ المنهج في مقدمته، كي يفاجأنا لاحقاً بحفريتاه المثيرة.
"وكما هو حادث ومشاهد، ينجم عن وضع الدين كإحداثيات إعجازية، تخرق نواميس الواقع ومنطق الطبيعة وقوانين التطورـ تسلسل آخر للبحث عن معجزات جديدة، كانت مستبطنة فيه، مع انتظار راكد بليد وسقيم، لخلاص سماوي وإعجاز علوي يتدخل مباشرة، ليحل لنا أزمتنا ويعيدنا إلى عصر الفتوحات، فنحمل السيوف تتقدمنا جيوش الملائكة، فقط على الجميع أن يلتزم الفروض والسنن بكافة دقائقها من الصلاة حتى المسواك، وبدءً بطاعة الله وانتهاءً بطاعة أولي الأمرِ منا.
...وينادى بإلحاق كافة العلوم بمصدر سماوي، يصدر التأكيد بعجز العلم البشري وقصوره، وينتفي دور العقل الذي أنتج تلك العلوم خارج حدودنا العصماء، وإبان ذلك يتم تسفيه ذلك العقل وتلك العلوم، كلما تصور المتعالم التلفازي ذو العلاقات المعلومة والرائحة المميزة أنه قد عثر على ثغرة في ذلك العلم في غفلة من كل علماء الدنيا، ثم لا يجد مناصاً بعد كشف الثغرات والنفخ في النعرات من إحالة شبابنا بعيداً عن كتب الكيمياء والفيزياء والاجتماع والتاريخ والسياسة إلى كتاب الله وحده الذي يشمل كل ما تم الكشف عنه، ومالم يكتشف بعد، دون أن يكلف سيادته نفسه مرة واحدة بالكشف عن نظرية علمية واحدة من كتاب الله قبل أن يكتشفها علماء الدول المتقدمة الكافرة بعقولهم القاصرة."
يقولون لا تراث لنا غير العروبة والإسلام, فيؤكد العديد من مدوني التراث أن هذا التراث ذي الأبعاد الزمانية المكانية، لم ينشأ إلاَّ في جزيرة العرب (العروبة)، وزمنَ التقاء وحي السماء بالأرض (الإسلام) ليؤسس لهذا التراث، ويُفرض لاحقاً على الشعوب والأمصار المفتوحة مع قطيعة مع الماضي..
إهمال دراسة اللامعقول في تراثنا القديم (قبل الإسلامي) بدعوى أسطوريته يفقد تراثنا جزءً مهماً، ومُؤسساً. ثم إن هذا اللامعقول هو مهم أيضًا ليقودنا لدراسة المعقول ذاته. ويستفسر القمني إن كان الإسلام المرتبط بالعروبة ضرورةً قد جاء بقطيعة معرفية مع الأسطورة، حتى يمكن القول أن هذا معقول وذاكَ لامعقول؟ ثم كيف يفسر أصحاب تلك الرؤية مواضيع إيمانية -لا شأن للعقل بها- مثل حادثة الإسراء والمعراج، أو تصنيف دابة البراق تصنيفاً علمياً أو ناقة صالح..إلخ.
ويعتقد القمني أن الأسطورة تتناول الآلهة والأبطال الاجتماعيين والأحداث المهمة وفق لغة وتصورات وتخيلات وتأملات وأحكام تناسب العصر والمكان الذي صيغت فيه، وشكل الأنظمة والمستوى المعرفي. وهي في الوقت ذاته تشكل ثقافة عصرها، بحيث تبدو ذات خصوصية تربطها ببيئتها ومجتمعها بحيث يمكن من دراستها استقراء التاريخ الأصدق لزمنها ومكانها. أما الأديان فهي منتج حضاري نشأ في الحواضر أو المدن، فنشأة الدين وتطوره ارتبط بنضوج المجتمع وظهور التقسيم الطبقي.
الفصل الأول: الإله النقيض
يفتتح القمني الفصل الأول من كتابه هذا بذكر بعض الطرائف التي علق فيها المسلمون صدماتهم ومآسيهم واغترابهم عن الواقع على الشيطان، الذي تحول من مجرد رمز ديني إلى مارد كبير يتدخل في حياتنا فيفسد الأخلاق، ويسبب القحط، وتأخر الأمة الحضاري بإغوائه أبناءها عن الطريق القويم. وكل هذه الأدوار التي يقوم بها الشيطان تلمح "لتمكنه من العقل الشرقي" كما يقول القمني. وقد أعطى هذا الدافع للقمني كي يبحث عن المنشأ؟ كيف جاء الشيطان، وتكون وتطور في هذه العقلية؟
تبدأ هذه الرحلة المثيرة منذ البدايات، بدايات تكون الإنسان البدائي بشكله الحديث بيولوجياً، فقد ميَّز هذا الإنسان في بداياته بين ظواهر الطبيعة إلى إيجاب وسلب، عطاء ونقص، ظلام ونهار، تكاثر وغداء مقابل موت وجوع. لهذا تقرَّب الإنسان لهذه القوى المتقابلة، "للظواهر الخيرة كي يزداد خيرها، وللظواهر التي يخشى بأسها ليتحاشا شرها ونقمتها، ويقلل من ضررها". ومع توالي ملاحظات الإنسان لفصول السنة توصل إلى أن هذه القوى تتناوب، فعلله بصراع قائم بينهما، فقام يشمر عن ساعديه لمساعدة قوى الخير بالقرابين والأضاحي مع طقوس العبادات، وتودد لقوى الشر عبر السحر وغيره اتقاءً لغضبها.
ومع تطور الفكر الإنساني، جسَّدت الشعوب القديمة هذه القوى في آلهة معينة مسؤولة عن ظواهر الخير، وأخرى لظواهر الشر ثم نسجت قصص الصراع بينهما في تفسير لتعاقب ظواهر الطبيعة. لهذا عبد المصريون القدامى "أوزي يرس" إله النيل والخضرة، وكان "سِت" إله الشر والصحراء. بينما عبد الرافديون تيامة "تهامة" إلهاً للشر، وكان "مردوخ" رب النور والضياء (والضياء مرتبط بالشمس الضرورية للحياة الخضراء). وعند الكنعانيين كان "موت" إله الشر، و"بعل" إله الخير. ومن خلال الصراع بينهما ترجح كفة بعل فتكون الدنيا خصباً، وينتصر "موت" فيحل الشتاء أو الجدب في الأرض..(لاحظ أن اللغة العربية احتفظ بالمفردة السامية موت، لتدل على حالة السكون).
أما في بلاد فارس فقد كان الصراع على أشده بين إله الخير (هرمز) وإله الشر(أهرمان). ومن الطريف في الأمر أن "قدماء الفرس كانوا يحتفلون بميلاد إله الخصب والنماء في ٢٥ ديسمبر، أي عندنا تبدأ الشمس دورتها الجديدة. لذا كان إله الضياء والشمس. ويصادف هذا التاريخ احتفال المسيحية بميلاد "يسوع المسيح"، وموعد احتفالها بعيد قيامة المسيح يوم 20 إبريل هو ذاته موعد قيامة ذلك الإله الخيِّر.
تطور المُخلص والمنقذ الذي ظهر للمرة الأولى في الديانة الزرادشتية ببلاد فارس. حيث آمنت هذه الديانة بظهور اثني عشر من نسل زرادشت (الذي بعثه إله الخير هرمز إلى الأرض ليساعده في محاربة الشر) مجدداً يظهرون كل ألف سنة لدعوة الناس إلى طريق الخير، حتى يكون الظهور الأخير فينتصر الخير ضد الشر. ظهرت هذه العقيدة عند المسلمين الشيعة. في محتواها تحض على استكانة الطبقة الكادحة للظلم الاجتماعي وضرورة انتظارها لظهور المخلص آخر الزمان.
الشيطان اليهودي:
اخترع اليهود "بعد فترة التيه" في سيناء إله شريراً مساوٍ لإلههم القومي (يهوه) سموه عزازيل، ونسبوا له أسباب الشرور التي حلت باليهود. جاء بالتوراة: "ويلقي هارون على التيس قرعتين، قرعة للرب، وقرعة لعزازيل". لكن القمني يعود بعزازيل اليهود هذا إلى أصل بابلي، فيجزم أنه هو إله الهلال "سين" الذي رمز له بالتيس أو قرون التيس. وأطلق اليهود على إله الشر ألقاب عديدة منها شيطان وإبليس، والتي كانت في أصلها اليوناني Dia-Bolos. وDia من Deuce الكنعانية القريبة من تيوس العربية وهي جمع تيس، والذي هو سين إله التيوس البابلي.
ومع ارتقاء الفكر البشري إلى التوحيد عوضاً عن تعدد الأرباب، كان من المستحيل التخلص من تراث الإله الشرير في ظل وجود الشرور في العالم، مع افتراض أن الإله الأزلي الأبدي الكامل لا يصدر عنه إلاَّ الخير فقط. لهذا أدخلت المسيحية إله الشر البابلي من الباب الخلفي فجعلته ملاكاً متمرداً ليصنع الخطيئة الأولى وليكون مصدرها على مر الزمن. وقد أغوى الشيطانُ آدم ليأكل من الشجرة المحرمة عبر تنكره بصورة حية.
أما في الإسلام فكان فقد ظهر الشيطان "بذات التسميات القديمة ، فهو إبليس، وهو الشيطان". وتؤكد بعض الروايات الإسلامية أن اسم الشيطان كان عزازيل قبل أن يغيره الله إلى إبليس (إحدى إسرائيليات التراث الإسلامي)! وكان رد إبليس على خالقه بعد الحوار الذي ورد في القرآن الكريم: "بعزتكَ لأغوينهم أجمعين"، فتأكد أن إبليس هو مصدر الشرور في الإسلام، ليعيد الصورة القديمة لإله الشر مقابل إله الخير.
كان تحول الآلهة إلى ملائكة (خيرين أو عاصين) جاء متفقاً مع تحول العقلية البشرية إلى التوحيد، فأثناء وبعد فترة السبي اليهودي في بابل ضم اليهود إلى تراثهم الديني أغلب آلهة الرافدين القديمة وعلى رأسهم الإله الجبار إيل، فنشأ لديهم مجموعة من الآلهة المساعدة -عرفت لاحقاً لدى اليهود بالملائكة- مثل عزرا-إيل، ميكا-إيل، جبرا-إيل..إلخ. ومما يجب ملاحظته هنا المكانة الخاصة لإله البابلي الجبار إيل (جبرا-إيل، جبريل) ليكون كبير الملائكة في اليهودية، ثم نرى تكرر الشيء ذاته في الإسلام.
شكل إبليس:
إضافة لقرني التيس التي ميزت إله الشرور إبليس من التراث البابلي، اتخذ الشيطان رمز الحية، فكيف يحلُ القمني هذا التوازي في الرمز الشيطاني؟. جاء في سفر "أشعيا" بالكتاب المقدس أن عرش الرب تحرسه ملائكة تسمى السرافيم، لكن المعنى العبري لكلمة ساراف هو الحية. وقد جاء بالتوراة أن الحية تسللت إلى الجنة لإغواء آدم وحواء. فيكون حينها إبليس هو أحد الملائكة ذوي أشكال الحيات أو الذي تخبأ في فم الحية كما جاء بالإنجيل.
"ومن هنا أصبح الشيطان ممثلاً في الحية والتنين والتيس لدى المسيحين، فبقيت اللوحات الفنية المسيحية تمثله بالحية وبالتنين في جميع أعضاءه عدا الرأس الذي حُوِّل إلى رأس إنسان ذي قرنين أو أذنين صاعدين مكان القرنين، وكلما تقدمنا زمنياً وجدنا الأعمال الفنية المسيحية تستبعد عن صورته الحية والتنين لتخلفهما ملامح إنسان خبيث، لكنه محتفظ بالقرنين أو الأذنين الطويلين والظلف المشقوق والذي الذي غالباً ما ينتهي برأس الحية".
ويختم القمني فصله المؤسس بالحديث عن نقش سومري اكتشف حديثاً ويعود تاريخه إلى الألف الثالث قبل الميلاد يصور ذكراً وأنثى يتناولان ثمرة من نخلة، وخلف حواء تدلت حية في وضع يوحي بنفس الصورة التي جاءت بعد ذلك في القصص الديني، لتؤكد مقولة العقاد: "إن التطور في الديانات محقق لا شك فيه".
الفصل الثاني: زهرة للحب، زهرة للحرب.
المقدمة:
في هذا الموضوع سنتناول كتاب "الأسطورة والتراث" لسيد القمني. لن يكون حديثاً عابراً، بل قراءة متفحصة كفيلة بعرض ما احتواه هذا الكتاب، ثم لنا بعد ذلك أن نقيِّم ردة فعلنا تجاه ما فيه. والكتاب لولبيُ البنية، فيبدأ الكاتب "ليؤسس" مشاهد جزئية لقراءه ثم يستخدمها لاحقاً في بناء الصورة الأكبر لاحقاً.
لهذا نبدأُ من المقدمة، مقدمة الكتاب التي أرادها الكاتب تأسيساً للقاريء، يبين فيها الكاتب رؤيته للأسطورة والدين والتراث، والعلاقة الهلامية التي ننظرُ بها لكلٍ مما سبق. وإنه يعرضُُ المنهج في مقدمته، كي يفاجأنا لاحقاً بحفريتاه المثيرة.
"وكما هو حادث ومشاهد، ينجم عن وضع الدين كإحداثيات إعجازية، تخرق نواميس الواقع ومنطق الطبيعة وقوانين التطورـ تسلسل آخر للبحث عن معجزات جديدة، كانت مستبطنة فيه، مع انتظار راكد بليد وسقيم، لخلاص سماوي وإعجاز علوي يتدخل مباشرة، ليحل لنا أزمتنا ويعيدنا إلى عصر الفتوحات، فنحمل السيوف تتقدمنا جيوش الملائكة، فقط على الجميع أن يلتزم الفروض والسنن بكافة دقائقها من الصلاة حتى المسواك، وبدءً بطاعة الله وانتهاءً بطاعة أولي الأمرِ منا.
...وينادى بإلحاق كافة العلوم بمصدر سماوي، يصدر التأكيد بعجز العلم البشري وقصوره، وينتفي دور العقل الذي أنتج تلك العلوم خارج حدودنا العصماء، وإبان ذلك يتم تسفيه ذلك العقل وتلك العلوم، كلما تصور المتعالم التلفازي ذو العلاقات المعلومة والرائحة المميزة أنه قد عثر على ثغرة في ذلك العلم في غفلة من كل علماء الدنيا، ثم لا يجد مناصاً بعد كشف الثغرات والنفخ في النعرات من إحالة شبابنا بعيداً عن كتب الكيمياء والفيزياء والاجتماع والتاريخ والسياسة إلى كتاب الله وحده الذي يشمل كل ما تم الكشف عنه، ومالم يكتشف بعد، دون أن يكلف سيادته نفسه مرة واحدة بالكشف عن نظرية علمية واحدة من كتاب الله قبل أن يكتشفها علماء الدول المتقدمة الكافرة بعقولهم القاصرة."
يقولون لا تراث لنا غير العروبة والإسلام, فيؤكد العديد من مدوني التراث أن هذا التراث ذي الأبعاد الزمانية المكانية، لم ينشأ إلاَّ في جزيرة العرب (العروبة)، وزمنَ التقاء وحي السماء بالأرض (الإسلام) ليؤسس لهذا التراث، ويُفرض لاحقاً على الشعوب والأمصار المفتوحة مع قطيعة مع الماضي..
إهمال دراسة اللامعقول في تراثنا القديم (قبل الإسلامي) بدعوى أسطوريته يفقد تراثنا جزءً مهماً، ومُؤسساً. ثم إن هذا اللامعقول هو مهم أيضًا ليقودنا لدراسة المعقول ذاته. ويستفسر القمني إن كان الإسلام المرتبط بالعروبة ضرورةً قد جاء بقطيعة معرفية مع الأسطورة، حتى يمكن القول أن هذا معقول وذاكَ لامعقول؟ ثم كيف يفسر أصحاب تلك الرؤية مواضيع إيمانية -لا شأن للعقل بها- مثل حادثة الإسراء والمعراج، أو تصنيف دابة البراق تصنيفاً علمياً أو ناقة صالح..إلخ.
ويعتقد القمني أن الأسطورة تتناول الآلهة والأبطال الاجتماعيين والأحداث المهمة وفق لغة وتصورات وتخيلات وتأملات وأحكام تناسب العصر والمكان الذي صيغت فيه، وشكل الأنظمة والمستوى المعرفي. وهي في الوقت ذاته تشكل ثقافة عصرها، بحيث تبدو ذات خصوصية تربطها ببيئتها ومجتمعها بحيث يمكن من دراستها استقراء التاريخ الأصدق لزمنها ومكانها. أما الأديان فهي منتج حضاري نشأ في الحواضر أو المدن، فنشأة الدين وتطوره ارتبط بنضوج المجتمع وظهور التقسيم الطبقي.
الفصل الأول: الإله النقيض
يفتتح القمني الفصل الأول من كتابه هذا بذكر بعض الطرائف التي علق فيها المسلمون صدماتهم ومآسيهم واغترابهم عن الواقع على الشيطان، الذي تحول من مجرد رمز ديني إلى مارد كبير يتدخل في حياتنا فيفسد الأخلاق، ويسبب القحط، وتأخر الأمة الحضاري بإغوائه أبناءها عن الطريق القويم. وكل هذه الأدوار التي يقوم بها الشيطان تلمح "لتمكنه من العقل الشرقي" كما يقول القمني. وقد أعطى هذا الدافع للقمني كي يبحث عن المنشأ؟ كيف جاء الشيطان، وتكون وتطور في هذه العقلية؟
تبدأ هذه الرحلة المثيرة منذ البدايات، بدايات تكون الإنسان البدائي بشكله الحديث بيولوجياً، فقد ميَّز هذا الإنسان في بداياته بين ظواهر الطبيعة إلى إيجاب وسلب، عطاء ونقص، ظلام ونهار، تكاثر وغداء مقابل موت وجوع. لهذا تقرَّب الإنسان لهذه القوى المتقابلة، "للظواهر الخيرة كي يزداد خيرها، وللظواهر التي يخشى بأسها ليتحاشا شرها ونقمتها، ويقلل من ضررها". ومع توالي ملاحظات الإنسان لفصول السنة توصل إلى أن هذه القوى تتناوب، فعلله بصراع قائم بينهما، فقام يشمر عن ساعديه لمساعدة قوى الخير بالقرابين والأضاحي مع طقوس العبادات، وتودد لقوى الشر عبر السحر وغيره اتقاءً لغضبها.
ومع تطور الفكر الإنساني، جسَّدت الشعوب القديمة هذه القوى في آلهة معينة مسؤولة عن ظواهر الخير، وأخرى لظواهر الشر ثم نسجت قصص الصراع بينهما في تفسير لتعاقب ظواهر الطبيعة. لهذا عبد المصريون القدامى "أوزي يرس" إله النيل والخضرة، وكان "سِت" إله الشر والصحراء. بينما عبد الرافديون تيامة "تهامة" إلهاً للشر، وكان "مردوخ" رب النور والضياء (والضياء مرتبط بالشمس الضرورية للحياة الخضراء). وعند الكنعانيين كان "موت" إله الشر، و"بعل" إله الخير. ومن خلال الصراع بينهما ترجح كفة بعل فتكون الدنيا خصباً، وينتصر "موت" فيحل الشتاء أو الجدب في الأرض..(لاحظ أن اللغة العربية احتفظ بالمفردة السامية موت، لتدل على حالة السكون).
أما في بلاد فارس فقد كان الصراع على أشده بين إله الخير (هرمز) وإله الشر(أهرمان). ومن الطريف في الأمر أن "قدماء الفرس كانوا يحتفلون بميلاد إله الخصب والنماء في ٢٥ ديسمبر، أي عندنا تبدأ الشمس دورتها الجديدة. لذا كان إله الضياء والشمس. ويصادف هذا التاريخ احتفال المسيحية بميلاد "يسوع المسيح"، وموعد احتفالها بعيد قيامة المسيح يوم 20 إبريل هو ذاته موعد قيامة ذلك الإله الخيِّر.
تطور المُخلص والمنقذ الذي ظهر للمرة الأولى في الديانة الزرادشتية ببلاد فارس. حيث آمنت هذه الديانة بظهور اثني عشر من نسل زرادشت (الذي بعثه إله الخير هرمز إلى الأرض ليساعده في محاربة الشر) مجدداً يظهرون كل ألف سنة لدعوة الناس إلى طريق الخير، حتى يكون الظهور الأخير فينتصر الخير ضد الشر. ظهرت هذه العقيدة عند المسلمين الشيعة. في محتواها تحض على استكانة الطبقة الكادحة للظلم الاجتماعي وضرورة انتظارها لظهور المخلص آخر الزمان.
الشيطان اليهودي:
اخترع اليهود "بعد فترة التيه" في سيناء إله شريراً مساوٍ لإلههم القومي (يهوه) سموه عزازيل، ونسبوا له أسباب الشرور التي حلت باليهود. جاء بالتوراة: "ويلقي هارون على التيس قرعتين، قرعة للرب، وقرعة لعزازيل". لكن القمني يعود بعزازيل اليهود هذا إلى أصل بابلي، فيجزم أنه هو إله الهلال "سين" الذي رمز له بالتيس أو قرون التيس. وأطلق اليهود على إله الشر ألقاب عديدة منها شيطان وإبليس، والتي كانت في أصلها اليوناني Dia-Bolos. وDia من Deuce الكنعانية القريبة من تيوس العربية وهي جمع تيس، والذي هو سين إله التيوس البابلي.
ومع ارتقاء الفكر البشري إلى التوحيد عوضاً عن تعدد الأرباب، كان من المستحيل التخلص من تراث الإله الشرير في ظل وجود الشرور في العالم، مع افتراض أن الإله الأزلي الأبدي الكامل لا يصدر عنه إلاَّ الخير فقط. لهذا أدخلت المسيحية إله الشر البابلي من الباب الخلفي فجعلته ملاكاً متمرداً ليصنع الخطيئة الأولى وليكون مصدرها على مر الزمن. وقد أغوى الشيطانُ آدم ليأكل من الشجرة المحرمة عبر تنكره بصورة حية.
أما في الإسلام فكان فقد ظهر الشيطان "بذات التسميات القديمة ، فهو إبليس، وهو الشيطان". وتؤكد بعض الروايات الإسلامية أن اسم الشيطان كان عزازيل قبل أن يغيره الله إلى إبليس (إحدى إسرائيليات التراث الإسلامي)! وكان رد إبليس على خالقه بعد الحوار الذي ورد في القرآن الكريم: "بعزتكَ لأغوينهم أجمعين"، فتأكد أن إبليس هو مصدر الشرور في الإسلام، ليعيد الصورة القديمة لإله الشر مقابل إله الخير.
كان تحول الآلهة إلى ملائكة (خيرين أو عاصين) جاء متفقاً مع تحول العقلية البشرية إلى التوحيد، فأثناء وبعد فترة السبي اليهودي في بابل ضم اليهود إلى تراثهم الديني أغلب آلهة الرافدين القديمة وعلى رأسهم الإله الجبار إيل، فنشأ لديهم مجموعة من الآلهة المساعدة -عرفت لاحقاً لدى اليهود بالملائكة- مثل عزرا-إيل، ميكا-إيل، جبرا-إيل..إلخ. ومما يجب ملاحظته هنا المكانة الخاصة لإله البابلي الجبار إيل (جبرا-إيل، جبريل) ليكون كبير الملائكة في اليهودية، ثم نرى تكرر الشيء ذاته في الإسلام.
شكل إبليس:
إضافة لقرني التيس التي ميزت إله الشرور إبليس من التراث البابلي، اتخذ الشيطان رمز الحية، فكيف يحلُ القمني هذا التوازي في الرمز الشيطاني؟. جاء في سفر "أشعيا" بالكتاب المقدس أن عرش الرب تحرسه ملائكة تسمى السرافيم، لكن المعنى العبري لكلمة ساراف هو الحية. وقد جاء بالتوراة أن الحية تسللت إلى الجنة لإغواء آدم وحواء. فيكون حينها إبليس هو أحد الملائكة ذوي أشكال الحيات أو الذي تخبأ في فم الحية كما جاء بالإنجيل.
"ومن هنا أصبح الشيطان ممثلاً في الحية والتنين والتيس لدى المسيحين، فبقيت اللوحات الفنية المسيحية تمثله بالحية وبالتنين في جميع أعضاءه عدا الرأس الذي حُوِّل إلى رأس إنسان ذي قرنين أو أذنين صاعدين مكان القرنين، وكلما تقدمنا زمنياً وجدنا الأعمال الفنية المسيحية تستبعد عن صورته الحية والتنين لتخلفهما ملامح إنسان خبيث، لكنه محتفظ بالقرنين أو الأذنين الطويلين والظلف المشقوق والذي الذي غالباً ما ينتهي برأس الحية".
ويختم القمني فصله المؤسس بالحديث عن نقش سومري اكتشف حديثاً ويعود تاريخه إلى الألف الثالث قبل الميلاد يصور ذكراً وأنثى يتناولان ثمرة من نخلة، وخلف حواء تدلت حية في وضع يوحي بنفس الصورة التي جاءت بعد ذلك في القصص الديني، لتؤكد مقولة العقاد: "إن التطور في الديانات محقق لا شك فيه".
الفصل الثاني: زهرة للحب، زهرة للحرب.
الكثير هنا، الزهرة من سومر وأكد وأشور، ثم للفينيقين فأثينا فروما، وبلاد العرب والأحباش.
لها صلة بمريم العذراء التي نذرت للهيكل والتي تلد من الله،
ولها صلة بأيام الأسبوع السبعة،
ولها صلة بالخصب والجدب، وبالحرب والسلم، وباللات والعزى ومناة،
ولها صلة بالبراق
والخنس الكنَّس في القرآن،
وهاروت وماروت..إلخ
الزهرة إنه الكوكب الجميل الذي يخرجُ مع الشمسِ صباحاً، ويظل لامعاً في الليلِ. لهذا راقبه الإنسان القديم، واهتم بأمره وحاك حوله الأساطير المثيرة. لهذا احتم البابليون بالكواكب الخمسة السيارة التي اكتشفوها حينها (عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل)، وأضافوا لهم الشمس والقمر ليصبح الرقم سبعة رقماً مقدساً عند البابلين، وليصنعوا منه أيام الأسبوع السبعة. ويورد القمني في فصله هذا جزءً من اللوح الخامس لأسطورة الخلق البابلية: "إن النجوم هي صور الآلهة.. هي رموزها". وقد قدَّس العقل البشر تلك الرموز الإلهية في السماء بعد مرورهم بمرحلة أكثر بدائية منها، وهي اتخاذهم الآلهة في صور الحيوانات (الطوطم، الطوطمية)، فارتقوا إلى السماء من الأرض بآلهتهم.
ولأن الإنسان الرافدي مزارع لطبيعة الأرض حوله، فقد قدَّس تربة الأرض بداية لاعتقاده أنها مصدر الخصوبة، ثم فصل الخصوبة عن التربة، ونسبها لإلهة أنثى في السماء تمنح الخصوبة والعطاء والميلاد كما هي أنثى الإنسان. لهذا أصبحت هذه الإلهة أحد أقوى الآلهة ومحركاً كونياً قوياً، ثم اختار لها كوكب الزهرة ليتمثلها فتحول إليها عابداً ذاكراً "ليسجد على الأرض رافعاً يديه للسماءً". وقد تركت الرسوم الرافدية تلك الصور، ومما كان فيها النجمة الثمانية الإشعاعات. سمى السومريون هذه الإلهة "إينانا" ويعني سيدة السماء، ثم جاء الساميون إلى أرض الرافدين فتغير اسم هذه الإلهة إلى "عشتار"، وهي من العشرة، والمعاشرة، والولادة التي تختصُ بها الأنثى وحدها. لهذا عبد الرفديون الإلهة الأم التي كانت مصدر الخصب والنماء.
لهذا تمنح الإلهة (عشتار أو إينانا أو الزهرة) الخصب والنماء طالما هي بالأعلى، ولكن حالما تُضحي بنفسها، وتذهب للعالم السفلي مضحية بنفسها يحل الشتاء العالم، فيجدبُ الناس. هكذا فسَّر الرفديون سر توالي الفصول.
الزهرة رب الحب والحرب
وعندما جاء الآشوريون، تلك القبائل المحاربة لبلاد الرفدين، ليؤسسوا مملكتهم تحولت عشتار من إلهة للخصب والنماء إلى أشياء أخرى. لاحظ الآشوريون أن تلك الزهرة تخرجُ مرتين في اليوم، صباحاً ومساءً. فاتخذوها إلهة للحرب صباحاً، وللحب والجنس والشهوة مساءً. إلى أن هذه الأدوار الجديدة لم تنفِ دورها السابق. لهذا ارتبط بعبادة عشتار طبقة من العاهرات العشتاريات المقدسات اللاتي كنَّ في المعابد لخدمة الآلهة. واستوج ظهور هذه الطبقة المقدسة حول عشتار لخدمة نزوات الإلهة والفعاليات المصاحبة لها. لهذا كن هؤلاء النساء من الطبقة العليا في المجتمع منذورات للخدمة في المعبد. ورغم أجواء العهر المصاحب لعبادة الزهراء إلاَّ أن الناس ظلوا يخاطبونها بالعذراء، أو الأم العذراء المقدسة، في إشارة للعذروية التي تسبق الخصب.
وبسب التداخل الحضاري، والتواصل بين الأقوام فقد انتقلت عبادة الزهرة إلى الشام عند الكنعانيين "إنات" وأبناء عمهم الفينيقين "إستار"، ونقلها الفينيقيون إلى اليونان بصورة أثينا أو أفروديت، وإلى الرومان بصورة فينوس. حتى اليهود دخلت هذه الإلهة في طقوس عبادتهم كما وردَ بنصوص متفرقة في الكتاب المقدس، إضافة "لسفر نشيد الإشاد المنسوب للنبي سليمان،لا يتسمم بأية صفة دينية، ولا يمت للمعتقدات العبري بصلة، كما لا تنسجم محتوياته أصلاً مع طبيعة الكتاب القدس، فهو أناشيد غزلية مكشوفة تماماً تنضح بالتعابير الجنسية، تدور كحوار بين عشيق وعشيقته، يصف فيها العاشق مفاتن عشيقته واقتدارها الجنسي، وهو بالمقارنة مع طقس عشتار المسمى ب(الزواج المقدس) بين الكاهنة الكبرى للبغايا المقدسات، وبين الملك الذي كان يعد كبيراً للكهنة في نفس الوقت لتحريض القوى الإخصابية على العطاء، نجد نشيد الإنشاد يكاد يكون نسخة منقولة، وخاصة أن الفتى العاشق في الأناشيد ينعت بكلمتي: ملك-راع، وهما من نعوت تموز -عشيق عشتار- في الرواية الرافدية"، نقلاً عن القمني ص 79.
وتكشف الآثار الكنعانية في مدينة أوجاريت التأثير الكنعاني في عقائد اليهود التي أبرزت خوف الكنعانيين من السبع السنين العجاف ، والتي يعقبهن -كما آمن الكنعانيون- سبع سنوات خصيبة تحي الأرض والناس. وقد تسللت هذه العقيدة إلى اليهود التي صوروها في قصة النبي يوسف الذي عقد صداقة مع فرعون الأحلام. كما أن عيد شاعبوت اليهودي هو ذاته عيد الحصاد الذي تقوم فيه الزهرة للحياة ويعود الخصب للدنيا، وهو ذاته عيد الفصح في المسيحية الذي يقوم فيه يسوع المسيح. واللغة تحفظ لنا هذه الاشتقاقات، فالفصح في الإنجليزية هو (إيستر)، وفي الألمانية (أوستيرن)، وفي التوتونية أوسترا، وهو قريب في النطق من اسم الإلهة عشتار.
وينقل القمني عن أحد الباحثين، أن الأم الكبرى أو القوة الإخصابية الكونية (مريم العذراء) في المسيحية قد حلت محل إلهة الحب العذراء عشتار. وما اسم مريم Mary إلى لقب لكوكب الزهرة عند الرومان الذين أخذوه عن الفينيقين الذين أطلقوا على الزهرة اللقب البحري (ستيلا ماري) أي كوكب البحر. والملاحظ أن الزهرة حازت على رموز الأمومة لهذا أطلق عليها كثيراً "ماما"، أو "أما" في بعض الشعوب. ويجب أن نذكر أن السيدة اليهودية مريم كانت إحدى المنذورات للهيكل، التي تحملُ من الإله كما كان المعتقد ذلك الأيام، وهو ذاته اعتقاد المسيحية عن السيدة مريم التي احتفظتْ أيضًا بلقب "البتول العذراء"، وهو لقب الزهرة.
الزهرة عند العرب
الباحث يتتبع أثر الزهرة في عبادات العرب قبل الإسلام، ويذهب إلى نظرية جديدة تفيد أن الأصنام الثلاثة الشهيرة التي عبدتها العربُ في الحرم المكي (مناة، اللات، عزى) لم تكن سوى صور متعددة من الإلة الزهرة (عشتار). فالآثار بالشام أخبرتْ أن الكنعانيين عبدوا إلى جانب الإله الجبار (إيل) زوجته، فأنثوها لتصبح (إيلات)، وما تزال إيلات مدينة شهيرة على البحر الأحم. أما لفظة إيلات الكنعانية فهي ذاتها لفظة "اللات". "أما بشأن مناة فهي ليستْ سوى "عناة" روح الخصوبة عند الكنعانيين المشتقة أصلاً من "عشتار" اسم الزهرة في الرافدين". أما العزى فيسوق القمني طرائق عديدة تصل بينها وبين الزهرة، منها أن المجتمع الروماني لقب ألهة الزهرة ب"آزيزوس"، وهذا يبدو كانعكاس للفظ سامي (صدىً للعزى).
يذهب القمني في كتابه هذا أن الزخم الآلهة البابلي تسرب لثقافة العرب، وإلى الإسلام. فقد عظمَّ القرآن الكريم "الخنَّس الكنس" في سوره عبر القسم عليهم. ويشير القمني أن الخنس الكنس هن الكواكب السيارة الخمس التي سبق ذكرهن بالأعلى. وأيضًا قدَّس المسلمون يوم الجمعة المقدس أصلاً في التقويم البابلي، والمخصص لعبادة كوكب الزهرة. وأيضًا نرى صدىً للزهرة في القرآن الكريم من خلال قصة الملكين هاروت وماروت الذين كانا يعلمان السحر ببابل. وقد جاء في تفسير الطبري أن امرأة اسمها "الزهرة" قد أضلت هذين الملكين حتى جعلا يعذبان ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة. وأيضًا يشير بعض الباحثين أن الولي الخضر المشهور في التراث الإسلامي هو عشيق الزهرة "تموز"، والذي جاء اسمه "الخضر" من الخضرة، التي هي أحد سمات الزهرة.
الفصل الثالث: أضحية للذكر، قربان للأنثى ومدخل إلى جذور الدين الاجتماعية
حينما أمعن الإنسان ملاحظة تغير الظواهر الطبيعية، عبد بعضها في صورة الأجرام السماوية ليضمن لنفسه الخصب والأمان. لهذا كان لابد له من التقرب لهذه الآلهة كي ترضى فتستمر نعمتها على الإنسان، وكان لآلهة الشر نصيبها من القرابين. وتنوعت قرابين الإنسان بتنوع البيئة والعصور، فكان هناك قربان الثمار، وقربان الماشية، وفي بعض الأحيان ضحَّى الإنسان بفلذات الأكباد للإله الغضوب حتى يرضى.
يسجلُ لنا التاريخ ذلك الدوران في القرابين، بين الدمِ والثمار وأحياناً أجزاءً من الجسد، ثم الإنسان القربان. جاءَ في التوراة أن قابيل قدَّم "أبكار فاكهته وثمارها"للإله، ونجد في الكتاب المقدس اليهودي أن اليهود "قد بنوا مرتفعات (مذابح) ليحرقوا أولادهم بالنار للبعل (الإله بعل الكنعاني)". ثم تطورت ظاهرة القرابين والأضاحي مع بدء المسيحية ليتنزل الإله بأكمله مضحياً لأجل خطايا البشر. أما أناس اليوم يطيرون الدم حينما يحتفلون بالبيت أو السيارة الجديدة. والبعض يأدي النذور!
القربان الحيواني انتشر بين الأقوام الشرقية جميعها، ضحتْ بعض الأقوام بالخروف والتيس. إن هابيل الراعي قدَّم خروفاً، فتقبل الإله منه بينما لم يتقبل ما قدَّمه قابيل المزارع. ويورد التوراة نرى سردًا لقصه إبراهيم النبي وهو يضحي بابنه إسحاق (هو إسماعيل في الإسلام) لكن الإله يتدخل فيفتدي الابن بكبش عظيم ، لنستشف أن التضحية بالأبناء كانت عادة ذلك الزمان. وكان صدى ذلك أيضًا هو تضحية عبدالمطلب بن هاشم بابنه عبدالله (والد الرسول محمد) قبل أن يفتديه بمائة ناقة. وقد كان العرب يقدمون الأضاحي أيضًا زمن الجاهلية للبيت الحرام أيام الحج، وقد حافظ الإسلام على تلك الشعيرة. لكن الإسلام استعاض عن التضحية البشرية بالختان أخذاً بسنة النبي إبراهيم.
وقد شهدت عادة القرابين البشرية انتشاراً كبيراً، ففي بعض الفترات الزمنية كانت التضحية بالأطفال هي الخيار الأفضل. سجل الكتاب المقدس حوادثاً للتضحيات بالأطفال عند اليهود، فيروي الكتاب المقدس أن نبي الله داود ضحى بأبناء سلفه شاؤول السبعة سعياً وراء الخصب، ورفع بلاء الأعداء.
القربان الإلهي: كان أعظم قربان في التاريخ، حيث حمل المسيح الإله الابن خطايا المؤمنين به في حياتهم، ليمنحهم الخلود في الحياة الآخرة. وجاء في رسالة بولس إلى رومية: "الله بين محبته لنا ونحن بعد خطاة، ومات المسيحُ لأجلنا وقد صولحنا من الله بموت ابنه". وقد جاءت نصوص العهد الجديد مبينة أن يسوع كان هو الأضحية، كان هو الكبش الأعظم الذي ذبح. ولكي تشمل بركات المسيح أتباع فلا بد من أكلهم من جسده وشربه من دمه. وليس جسده إلاَّ فطير رسم عليه الصليب وبعض النبيذ الأحمر، فتشملُ المغفرة المؤمنين.
تفسيرُ نشأة الأضحية؟
يقرر القمني أن نشأة الأضحية هي ذاتها نشأة الديانات. فالإنسان البدائي بدأ بتقديس والديه، فهما من يوفران له الطعام والأمان، والحنان والدفء وغير ذلك. لهذا استمر الإنسان بتقديس والديه بعد موتهما، وما زاد الأمر إثارة للإنسان البدائي هو ظاهرة الأحلام التي أعادت الوالدين الميتين لأنظار الابن الذي لم يعرف أين يختبأ والداه. وفي سبيل الإجابة على هذا اللغز المحير تخيل الإنسان البدائي أن والديه "حلاَّ" في الشجر أو الحيوانات (الطوطم). ومع تكون الشعوب عوضاً عن القبائل المتفرقة كان لابد من الاستعاضة بظاهرة جديدة ترضي الجميع، فتمثل الإنسان مقدساته في مظاهر كونية مثل السماء أو الأرض أو النجوم والكواكب، ليرمز لسلفه الغابر. وقد جاء في أحد التراتيل السومرية:
عندما تزوجت الإلهات الأم
وعندما توزعت الإلهات الأم
بين السماء والأرض
وعندما ولدت الإلهات الأم
عند ذلك كتب العمل
الآلهة العظام تراقب العمل
والأبناء يحملون السلال
فالأمهات تستمدُ قدسيتها من الولادة (الخصب)، ثم تتوزع بعد ذلك لتكون إلهة في حقل العمل، أو إلهة في السماء بصورة عشتار، أو إينانا (إلهة كوكب الزهرة). ولذلك بقي على الأبناء العمل تحت رعاية الآلهة. ومما يجدر ملاحظته هنا أن آلهة سومر الأولى كانت أمومية (أنثوية) لارتباطهم بالزراعة والأرض (النظريات الأنثروبولوجية تشير إلى أن الأنثى هي من اكتشف الزراعة، وهي من بدأها)، بينما كانت آلهة القبائل السامية الرعاة القادمين مما يعرف اليوم بجزيرة العرب أبوية (ذكورية) لاعتمادهم على الذكور في الصيد والرعي.
وعندما يضحي المُضحي بنفسه في سبيل الجماعة، فإن الجماعة تتذكر من شهدت موته وفدائه لها. ويقدم الأضحية عادة زعيم الجماعة أو الأب الأقوى\الذي لا تفتأ الجماعة تسترجعُ ذكراه عاماً بعد عام في الحيوان الطوطم -وغالباً ما يكون خروفاً أو تيساً- الذي ترعاه الجماعة بعناية واهتمام حتى يحين موعد "استشهاده" ليعيد ذكرى استشهاد الفقيد، وفعله لأجل الجماعة. لهذا يأكل الأبناء لحم الخروف كي يحتووا الفقيد في أجسادهم، مع غرقهم في أجواء الحزن والألم. وتكرر هذا المشهد في مواسم استشهاد الآلهة العظام حزناً على "تموز"، و"أدونيس"، و"بعل"، و"أتيس"، و"المسيح"، و"الحسين".
القربان الأمومي:
ومع استقرار الرعاة في بلاد الهلال الخصيب وآلهتهم لكن الآلهة الأمومية لم تختفي بل ظلت باقية مع خفوتها عن السابق. نرى ذلك جلياً في الشعائر المسيحية التي تشرع الصوم للإلهة الأم (مريم العذراء). وهذا الصوم هو صوم عن كل ما هو حيواني فقط، ولذلك يكون الغذاء على النبات (المتبع في المجتمعات الأمومية قديماً). ثم إن طقوس تقديس الإلهة الأنثى ظل باقياً وبأشكال متعددة حتى القرون القريبة قبل الميلاد. وأبرز هذه الطقوس كان الجنس الجماعي المقام في معبد الآلهة خدمة للإلهة الأم الذي تقدم فيه النساء أنفسهن لزوار المعبد وتذهب النقودللإلهة. وكانت هناك أيضًا الزانيات المقدسات التي وهبن أنفسهن لتلك الإلهة الغير متزوجة والغير عفيفة في ذات الوقت (هكذا كانت صفة الأنثى في المجتمعات الأمومية الأولى حيث لم يخترع نظام الزواج بعد). وهذا الجنس الجارف كان رمزاً لاستجداء قوى التناسل في الطبيعة كلها.
إلاَّ أن سيادة الذكور وثقافتهم بدأت معها "محاولات للتحايل من أجل تخفيف هذا القربان، فكان أن شكلت طبقة خاصة من النساء ليقمن بهذا الطقس القربان، فأصبحن ضحية وفداء لبقية النساء، إلاّ أن ذلك لم يكن عاراً بل شرفاً عظيماً نالته هؤلاء النسوة، فلقبوهن بالعشتاريات المشتق من عشتار. وقد لقبت هؤلاء العشتاريات "قاديشو"، الذي أصبح لاحقاً في اليهودية "قديشا"-الذي كان يطلق على زانيات الهيكل السليمان- والتي ننطقها قديسة". وقد لقبت إلهة الخصب في الهلال الخصيب بالبتول، ومعناها الغير متزوجة برجل ما، وهو ذات اللقب الذي حملته الإلهة مريم في العقيدة المسيحية رغم إنجابها المسيح وإخوته. ويورد القمني كشفاً أركيولوجياً في طرالس بليديا جاء فيه: "أن الشريفة أورليا أماليا قد قدمت جسدها قرباناً للإلهة، وأنها في تدينها أصيلة ، فقد قدمت أمها وجدتها القربان ذاته، وأنه قد تم التأكد من ذلك.
القربان الذكوري:
يسترجعُ القمني قصة قابيل وهابيل في الكتاب المقدس. إنه لا يأخذها على علاتها، بل يراجعها وفقاً لدلالاتها الإنثروبولوجية. فالربُ الذي قبلَ قربان هابيل من الغنم، ورفض قربان قابيل من الفواكه والخضار لابد أن يكون إلهاً بدوياً ذكورياً لشعب عبراني رعوي وهو يؤلف الكتاب المقدس. وقد انتهت هذه القصة المؤسفة بمقتل الراعي على يدِ المزارع، "لإبراز الشر الكامن في المزارع مقابل طيبة الراعي، ومن ثم وجب الثأر المتأصل في القبلية ليحل الغضب الإلهي على المزارع ومن ثم تقدس قربان هابيل الراعي".
وما استخدام الغنم في القربان إلاّ تأكيد على طبيعة العلاقة بين الرعاة ورب الرعاة، ورأينا تجلٍ آخر لهذا في التنافس العبراني العربي في الفخر كونه المذبوح للرب (إسماعيل أو إسحاق ذبيح الله؟!). والتجلي الأوضح له هو التضحية بالسيد الأكبر يسوع في العقيدة المسيحية. ليحتفل المسيحيون في عيد قيامة المسيح بأكل الخروف.
القربان الذكري: تعريجاً على قصة قايين (قابيل في القرآن) وهابيل في الكتاب المقدس، تقبل الرب من هابيل الراعي، ولم يقبل قربان المزارع هابيل. وفي هذا إشارة إلى طبيعة الشعب العبراني وهو شعب رعوي . فكأنما أراد النص المقدس إبراز أن الإله (الرعوي) تقبل من الراعي، لكنما لتأصل الشر في طبيعة المزارع (المزارعين) فقد قتل المزارع الراعي. ولهذا كان لابد من مقتل الراعي على يد المزارع كي يفرح الرب بالأضحية وينحاز لها نهائياً.
من هنا دأبت الأديان السامية على تأكيد الأضحية ودورها في التقرب من الإله الرعوي. وقد تجلى ذلك في عدة صور، منها التنافس بين اليهود والعرب للانتساب للابن الذبيح للنبي إبراهيم. وتجلي ذلك أيضًا في التضحية بالإله يسوع في العقيدة المسيحية.
الفصل الرابع: القمر الأب أو الضلع الأكبر في الثالوث
ذكرنا بالأعلى أن المجتمعات الذكورية (التي ساد فيها الرعاة) قدَّست آبائها الغابرين الذين ارتفعوا إلى السماء ليحلَّوا في صورة الجرم السماوي الأوضح الذي يراه الرعاة ليلاً في البوادي، ولهذا أصبح القمر محل تقديس الإنسان الرعوي ليقدَّم له القرابين والأضاحي المتنوعة. "ولتشابه قرني التيس أو الخروف أو الثور وبين الهلال فقد تصور الإنسان أن هذا الحيوان إن هو إلاَّ سلفه المعبود ومن ثم قام بذبحه في احتفالات خاصة، ثم أكله ليحتويه في حشاه وبطنه بتلك الأيام الغابرة. ويرى الملاحظ الدقيق أن الطقوس القمرية تغلب على فعاليات الأضاحي التي قدمها أو يقدمها الإنسان حتى يومنا هذا. وبدلاً من ذبح الأبناء كقرابين للآلهة (كما حدث مع ابن النبي إبراهيم، أو مع عبدالله بن عبدالمطلب) فقد اتجه الإنسان لاحقاً لظاهرة الختان التي تُعد ذبحاً جزئياً. أما قرابين المجتمعات الأمومية فقد اتسمت بممارسة الجنس الجماعي أو مشتقاته لاستجداء الخصب والميلاد والحياة للأرض والناس.
وبتداخل المجتمعات الذكورية والأمومية عن طريق الهجرات المتتابعة للبدو الرعاة للمجتمعات الزراعية تداخلت الآلهة كذلك، فزوَّجها العباد، ليتزوج القمر -إله الرعاة- من الشمس إلهة المزارعين. وككل الزيجات، كان لابد من استعادة قصة الأب والأم الأولين، فلا يأتي بعد الزواج سوى الأولاد. وهكذا ظهرت الزهرة كثمرة لهذا الزواج المقدس، وبهذا اكتملت أضلاع الثالوث الإلهي. ولكن باختلاف المجتمعات تبادلت الشمس والزهرة الأدوار فتارة الابن، وتارة الزوجة. لكن القمر كان دائماً هو الذكر المطلق لسيادة الذكور المطلقة لسيادة الرعاة.
آلهة القمر في اليمن القديم:
ينتقي سيد القمني الثالوث الإلهي في الجنوب اليمني في بحثه هذا، ليركز على آلهة القمر هناك لأهميتها القصوى الذي سنتبينها لاحقاً.
يشير القمني إلى أن "سين" هو كبير آلهة حضرموت، وقد كان "سين" إله القمر كذلك في بلاد الرافدين القديمة، ووجدت آثار له في سيناء المصرية التي قيل أن اسمها مشتق من "سين". ويحلل القمني اسم "سين"، ليدلَّل أن النون في الاسم هي أداة التعريف في اللغة العربية الجنوبية، و"سي" تدل على الشياة عموماً والتي تطوراً لاحقاً إلى شاة. وبهذا يكون معنى إله القمر "سين"هو الإله التيس. ويرى بعض الباحثون أن "سين" عرف في القرآن الكريم تحت مصطلح "ياسين"، سين هو اسم إله القمر.. الياء أداة نداء.
وعبد المعينيون اليمنيون "ود" إله القمر، الذي يدل اسمه على الودود والعطوف. ولُقِّبَ هذا الإله بنعوت شتى منها صدوق (الصادق)، نهى (الحسن)، رضى (الراضي)، حكم (الحكيم)، رحمن (الرحمن)، حريمن (القدوس)، والملك، والعادل، والعزيز..إلخ. وقد نسب المعينيون أنفسهم للإله ود، فأصبحوا أبناء إله القمر ود، ليطلقوا على أنفسهم "هود"، والهاء هنا تفيد الانتساب والبنوة كما يورد القمني.
المقة:
المقة: اسم إله القمر السبأي، والسبئيون يعتبرون أنفسهم أبناء المقة. وهذا الاسم الإلهي الشهير في بلاد اليمن الذي ورد النقوش المكتشفة أكثر من ألف مرة أثار شهية الباحث في نفس سيد القمني لينقب أكثر في دلالة الاسم. وقد حدد القمني اشكاليتين في الاسم: هما (ال) في بداية الاسم الإلهي الذي لا يدل على التعريف في اللغات العربية الجنوبية والشمالية. ثم (التاة المربوطة) في نهاية المقة التي تدل تلقائياً على الأنثى في العربية الشمالية والجنوبية، إلاَّ ذلك ليس منطقياً للدلالة على إله ذكر.
يقرر القمني أن (ال) هي (إل) التي تعني باللغات الساميَّة الإله أو الله. ثم يلتفت إلى "مقة"، التي لجأ الباحثُ إلى نصوص قتبانية (تعود لحضارة يمنية) ليتجاوز إشكاليتها. فمن خلال تحليل النص: "مختن ملكن بمكي"، والتي تكون ترجمته كالتالي: "مذبح الملك بموضع مكي". يربط القمني بين "مكي" القتبانية ب"مقة" السبأئية، مع استذكاره "إل" أي إله. فيصبح معنى الكلمة "المقة" إله مقة أو إله مكة مع استدراك القمني أن شعب اليمن يقلب القاف إلى الكاف في لهجتهم، فتكون تصبح مقة=مكة. وكون "مقة" أو "مكة" هي موضع مذبح (معبد) مقدس (أي حَرَم)، فتكون ترجمة "المقة" هي إله الحَرَم المقدس بمكة.
ثالوث إل:
الزواج المقدس بين إل (إله السماء الذكر) واللات (إلهة الشمس الأنثى-التاء فيها للتأنيث) أنجب وليداً إلهياً يسمى (عثتر سمين) أي عثتر السماء، وقد أشارت له النصوص ب آزيزوس (العزيز) لتقدمه الشمس عند شروقها، ومونيموس (المنعم) لظهوره بعد الشمس عند غروبها. وقد أكمل الزهرة عند عرب الجنوب الثالوث المقدس. والعزيز أو العزين يقابله في العبرانية (عزيم) وهو الماعز، وخصوصاً التيس. هذا يعيد صفة الأب القمر كخروف أو تيس، ليؤكد حمل الابن (الزهرة) صفات الأب.
إلى مكة:
بعد انهيار سد مأرب نزحت القبائل اليمنية شمالاً. واستقرت خزاعة في المنطقة التي أصبحت تعرف اليوم ب"مكة". وكان طبيعياً أن تحمل هذه القبائل معتقداتها معها، نتج عن ذلك ارتحال "رب البيت" مع أصحابه ليتقدس له بيت جديد على الأرض في مكة!
والروايات الإسلامية تقول أن عمرو بن لحي الخزاعي (وخزاعة قبيلة يمنية) كان أول حاجب للحرم المكي، وربما هذه الرواية عكستْ الرواية الأقدم أن جرهم اليمنية كانت أول ساكني مكة بعدما ترك النبي إبراهيم ابنه إسماعيل وسارة في تلك الصحراء المجدبة. وهناك روايات تاريخية تحكي تعظيم ملوك اليمن للبيت الإلهي بالحجاز وطوافهم حوله، وتقديم الكساء اليماني للبيت. وكان اليمنيون هم أول من صنع باباً للبيت.
وبعد الاستقرار اليمني بمكة بمرور الزمن، حلت أداة التعريف في العربية العدنانية (الألف واللام) في أول الكلمة محل أداة التعريف في العربية القحطانية (ن) ليتحول (إل ن) إلى (الله). أما اللات فكانت الإلهة الزوجة الأم. إله الخصب الكنعاني الذي كان معروفاً ب"هـ بعل" فقد تغير لفظه تدريجياً في مكة بإهمال العين ليصبح "هبل" وليحل محل (عثتر سمين) الإله الابن. ويروي الإخباريون المسلمون قصة أن عمرو بن لحي الخزاعي عاد من الشام لمكة حاملاً معه هبل وإساف ونائلة، فوضع هبل في فناء الكعبة، وإساف على الصفا، ونائلة على المروة. وهناك رواية إسلامية أخرى تقول أن الحجر الأسود كان أبيضاً لكنه اسوَّد من مسِّ الحيض في الجاهلية، وهذا يشير إلى طقس جاهلي تؤديه النساء بلمس الحجر الأسود بدماء الحيض. ويكمل القمني "كان دم الحيض عند المرأة في اعتقاد الأقدمين هو سر الميلاد، فمن المرأة الدم، ومن الرجل المني، ومن الإله الروح. علماً أن الدورة الشهرية للمرأة تتوافق مع حركات القمر توافقاً بيناً، وكان "إل" هو إله القمر".
وتسجل الروايات الإسلامية حديثاً للرسول محمد متحدثاً عن مناسك الحج: "ابدأوا بما بدأ الله عزوجل به، فأتى الصفا فبدأ به، ثم طاف بين الصفا والمروة سبعاً..إلخ". وفي الإسلام احترام القمر، فتحوَّل (إل) أو الله اليماني إلى آية من آيات الله الإسلامي فوضع فوق المآذن مع رمز الزهرة النجمة، وظلت الشهور قمرية والحج قمرياً، والصيام قمرياً بدوياً كامل الجوع بعكس الصيام الزراعي (ويكون أكل الخضروات والفواكه ومشتقاتها مباحاً فيه) كما هو في المسيحية وكان الحث لصيام الأيام البيض حينما يكون القمر مكتملاً.
إل العِبري:
ويبدو أن "إل" هاجرَ كذلك مما يسمى حالياً الجزيرة العربية لنراه في بلاد الشام، ولكن بكسر أكبر لهمزة "إل" ليصبح "إيل"،وتكون معه زوجته "إيلات" التي رسخت لاحقاً باسم المدينة المعروفة على شط البحر الأحمر. وقد تقدَّس هناك كثيراً حتى شيدت له البيوت الحرام، ومما كان منها "بيت إيل" في مدينة القدس. وعرف "إيل" ألقاباً وأسماءً مختلفة عند شعوب الهلال الخصيب كان منها "أبو أبنائه"، و"أبو البشر:آدم" كما كان عند الكنعانيين.
والنصوص التوراتية التي أشارت أو تحدثت عن الإله في الكتاب المقدس قبل ظهور موسى أشارت إليه ب"إيل"، فكان الرب المتميز بين أرباب آخرين. ويستشف القمني في تلك النصوص الثالوث الإلهي الذي كان زعيمه (إيل) إله القمر. لكن الأمر يختلف حينما ظهر (يهوه) للنبي موسى، فمنذ تلك اللحظة يصبح الإله يهوه هو الأكثر تكراراً وذكراً.
وهذا الإله يهوه قد عرف قبل العبرانين، فقد وجدت نقوشه ورموزه في بعض مدن بلاد الشام كإله وثني عبدته شعوب مختلفة. ويرى الباحثون الإنثربولوجيون أن يهوه هو إله قمري تبناه اليهود من مدن مدين وثمود..وغيرها. ويدلل القمني أيضًا على اكتشافات أثرية عثرت على جماعة من اليهود أقامت في بصعيد مصر عبدت ياهو مع إلهين آخرين أحدهما أنثى اسمها "الأنثى ياهو"، أما الآخر فلم يكن -حسب الدلائل الكنعانية- سوى الإله الأعظم إيل الذي لعب دور الإله الأب العجوز. ومما يثير العجب -والكلام للقمني- أن القمر الإله "إيل" حمل لقب "كهلان" أي الإله الكهل في ديانة اليمن. أما الإله الابن "يهوه" فقد كان إله مخلصاً أو حامياً بنظر أتباعه، وهو الذي اعتمد عليه النبي موسى في الخروج من مصر عندما خاطبه في الوادي بداية، ثم هيَّأ لهم جزر البحر -والجزر مرتبط بالقمر طبيعياً- عندما طاردهم فرعون. لهذا يستنتج القمني أن الثالوث اليهودي الوثني الذي توارثه اليهود -وأخذوه عن الأقوام الأخرى- قد أعاد موسى ترتيبه ليصبح "يهوه" فيه إلها رئيسياً بعد تنحي إيل الكهل. وعرض القمني تجلٍ آخر للإله المخلص في المسيحية في اسم يسوع Jesous الذي كان صيغة يونانية للكلمة العبرانية يشوع Jehoshua. والتي حللها القمني لمقطعين هما "ياه" رديف ياهو الإله الابن، و"شوع" أي المخلص أو الناصر!
ويضيف القمني "ولو عدنا مرة أخرى إلى ديانة عرب الجنوب فسنجد بين الآلهة الثمودية ذاك الذي حمل اسم "يثع" بمعنى الناصر أو الحامي، الاسم الذي دخل في مركب مقدس ورد في القرآن الكريم باسم "اليسع"، وهو من الصيغة العبرية "اليشع"، وهو اسم يتركب من مقطعين: الأول منهما هو "إل" الذي عرفناه إلهاً للقمر و"يشع" أو يثع أي المخلص أو الناصر أو الحامي، وهو في الوقت نفسه صفة للقمر الذي "يشع"!..
الفصل الخامس: نماذج من الأساطير التوراتية.. ومدخل إلى فهم دورها التاريخي
مقولات تمهيدية:
"في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقاً قائلاً: لنسلكَ أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات". سفر التكوين.
"يا بني إسرائيل: اذكروا نعمتي التي أنعمتُ عليكم، وأني فضلتكم على العالمين" سورة البقرة.
في حوالي منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، وحينما كانت مصر في أوج عظمتها الحضارية، وكانت بلاد الرافدين تحت حكم دول مركزية عظمى ، وكانت بلاد الشام تحت سيطرة الكنعانيين والفينيقين، تدافعتْ قبائل الآراميين إلى حدود بلاد الشام تشتمُ الفرص الممكنة للغزو والاستيلاء على الخصب والمدن. كان من ضمن قبائل الآراميين تلك القبيلة التي عرفت لاحقاً باسم العبرانيين التي طمحت للاستقرار في بيئة خصبة فلم تجد أفضل من مدن الكنعانين في بلاد الشام، لكنها لم تستطع الاستيلاء عليها مباشرة لكونها مدن منظمة وقوية. فجاورتهم زمناً طويلاً، وعملت في خدمتهم زمناً طويلاً، وتماهت معم في لغتهم، وأخذت من أديان وأساطير المنطقة (وخصوصاً التراث الكنعاني) خليطاً عجيباً لينتموا للجميع، فأتنتج ذلك ديناً جديداً قائماً على تراث المنطقة، مشكلين بذلك وعياً وتواصلاً بالتاريخ.
يعلقُ القمني: "وبالدين كانت بداية تاريخهم، الذي لم يكن تاريخهم أصلاً، وبالدين كانت بداية وجودهم كشعب يحمل تراثًا عريقاً، وبالدين كانت بداية لغتهم بعد أن تحولوا عن آراميتهم الأصلية إلى اللغة الكنعانية، إمعاناً في المصداقية مع الوعي بتمثل التراث والتلاحم التاريخي. وبالدين وتفهمهم لدوره، وإمكانياته التي لا تنفد، كانت بيدايتهم كأصل للتدين، فاحتكروا النبوات جميعاً في نسلهم وأصلابهم، وليس هناك شهادة لهم بالتفوق الأكيد سوى التسليم لهم بهذا الاحتكار، برغم أنهم بدأوا من ديانات المنطقة.
وبعد أن أسسوا أنفسهم، قاموا بنسبة ميثولوجيا المنطقة ورموزها وأبطالها إلى اليهود وأسلافهم وسلالاتهم، فهوَّدوا تراث المنطقة، عبر الازدياد التدريجي والمتواصل للتوراة أو الكتاب المقدس حسبما شاءت الظروف. وقد ساعدهم في ذلك ارتحالهم في مناسبات مختلفة إلى الرافدين ومصر. ويعلَّق أحد الباحثين على التوراة: "إن تابوت العهد يعود بنا إلى مساكن آلهة النيل المتنقلة، وآثار السحر ترجع بنا إلى مصر، كما تذكرنا قصة الطوفان والأرقام الغامضة ببابل، ويصير الإله البابلي جلجامش نمرود، وتصبح ثيران آشور المجنحة كروبيم العبريين، كما أن أسطورة الجنة وشخصية الشيطان أهريمان وعالم الملائكة ورؤساء الملائكة تعيد إلى أذهاننا بلاد الفرس، ونتعرف على البعل إله الفينيقيين والكنعانيين في أسماء إشبعل ومربعل. لقد كان الفلسطينيون الذين يحتمل أنهم وفدوا أصلاً من كريت ينظرون إلى اليمامة أصلاً كإله، أما السمكة التي عبدت في عسقلان فتظهر في قصة يونان".
يرسم القمني بناء على المعطيات الإنثروبولوجية تاريخ العبرانيين، فيحدد نقطة بدايته بقدومهم من الصحراء لبلاد الشام محتكين بالكنعانيين ليعيشوا كمواطنين من الدرجة الثانية، وليكونوا أداة في أيدي ملوك الكنعانيين. وقد جاءت تلك الإشارة في التوراة أن النبي إبراهيم حل ضيفاً على مملكة شاليم الكنعانية. ولما حلَّت سنوات القحط توجه العبرانيون إلى مصر تحت قيادة النبي يعقوب بن إسحاق وأسباطه (كما يروي الكتاب المقدس). لكن الحفريات الأنثربولوجية لا تدعم الرواية التي يحملها الكتاب المقدس عن العلاقة الخاصة التي جمعت مفسر الأحلام (النبي يوسف) مع الفرعون الحالم، والتي بوَّأت العبرانيين الديار المصرية. حينما تغير الفرعون المصري تغيرتْ أحوال العبرانيين معه، ليصبحوا أداة سخرة بيد المصريين، وقد سجلت نصوص التوراة مذلة العبرانيين في أرض مصر. وصادف أن حدثت فتن داخلية بمصر أتاحت للعبرانيين الهروب من مصر إلى كنعان مرة أخرى، ليبين العبرانين عن طبيعتهم المتوحشة التي سجلتها نصوص الكتاب المقدس وقد تحوَّل الربُ فيه إلى محارب يتلذذُ بالدماء. وكناية عن العداوة التاريخية لأهل فلسطين الكنعانيين فقد أمر الرب العبرانيين بقتل كل نسمة كنعانية: (وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيكَ الرب إلهك نصيباً، فلا تستبق منها نسمة ما-سفر التثنية).
وتستمر عجلة التاريخ ليقيم العبرانيون دولة صغيرة أيام سليمان بن داود حاجزة بين مصر الفرعونية، وبابل، ولكنها انقسمت بعد ذلك إلى السامرة ويهوذا وكانت الحرب الأهلية سجال بينهما. وقضى أهل العراق على الدولتين ليأخذوا العبرانيين سبايا إلى أرض العراق. فينهل اليهود من تراث المنطقة الغني هناك، وينعكسُ ذلك على نصوص الكتاب المقدس. ويتعاون اليهود مع قورش الفارسي لتسقط بابل، فيعودوا مرة أخرى لأرض لفلسطين. ثم يطردهم منها نهائياً القائد الروماني طيطس، ليبدأ عصر الشتات اليهودي، فينتشروا في الأرض ومنها الجزيرة العربية حيث يخرج الإسلام ليبدؤوا بتهويد العقول.
أسطورة الخلق والتكوين:
حتى عهد قريب -يقول القمني- كان الاعتقاد السائد أن قصة الخلق كانت ملحمة توراتية خالصة، وفريدة. لكن كل شيء تغير إثر الكشوفات الأثرية في الهلال الخصيب إضافة لمصر خلال القرن المنصرم. وُجدت ملاحم مشابهة في الآثار المصرية، والكنعانية، وبلاد الرافدين كلٍ منها تسردُ قصة خلق العالم، وخلق أول إنسان (آدم) وزوجته بقليل من التفاصيل المختلفة. كان أبرزهن ما جاء في الملاحم السومرية من إصابة الابن الإلهي (آنكي) بمرض في ضلعه، بعدما أكل من ثمار حرمتها عليه الآلهة، فخلقت الآلهة إلهة أنثى اسمها (نن تي) لتطبيبه. وبترجمة اسم هذه الإلهة إلى العربية يصبح "سيدة الضلع". ويبدو أن كتاب التوراة أخذوا الضلع المُصاب، أو الأعوج ليخرجوا منه حواء، أي مانحة الحياة، ويذكر القمني أن الباحثين وجدوا في أوغاريت الكنعانية مدونات أثرية سجل عليها ملحمة بداية الخلق. وقد وجدَ في تلك المدونات الأثرية ذكر اسم "آدم " لأول مرة.
ويتكرر الأمر مع حادثة ابني آدم قابيل وهابيل التي أخذها العبرانيون بشكل ملحوظ من رواية مصرية مع عكس الأحداث بها لتكون لمصلحة الراعي هابيل ضد المزارع المصري قابيل. سجلَّ العبرانيون في قصتهم تلكَ أن الإله انحاز للراعي العبراني ضد المزارع المصري أو الكنعاني أو الرافدي دونما سبب واضح سوى أن الرب كان يتوق دائماً إلى رائحة اللحم المحروق، وهو ما قدمه له الراعي لتهدأ نفسه وتستريح. وفي هذا إشارة للمزارع أن ما عليه إلاَّ أن يترك الأرض وتاريخه فيها للراعي الطيب، والأقدار لله.
قصة الطوفان بالتوراة:
"إن طوفاناً سيهلك مراكز العبادة
وتهلك ذرية البشر..
إن هذا هو القرار الذي أصدره الآلهة
في مجمعهم
قم فابن فلكاً
هذا ما همس به الإله لعبده الصالح زيوسودرا"
من ملحمة جلجامش..
لم تكن أصيلة في التوراة، بل هي مستوحاة من أرض الرافدين. أثبت ذلك حل رموز اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجامش البابلية، إضافة لألواح أخرى من ذات المنطقة. ولربما عظم أهل الرافدين أحاديث الطوفان بسبب تعرضهم لفيضانات دجلة والفرات المستمرة، ولجوئهم للقوى الإلهية في تفسيرهم لتلك الأحداث. ويذكر القمني أن بعض ألواح سومر كتب عليها أن الآلهة اختارت الملك الورع زيوسودرا لتخبره أن الطوفان آت، ونصحته ببناء الفلك العظيم ليسع كل كائنات الأرض من كل زوجين اثنين، لتكافئه الآلهة بالخلود بعدها (وترجم ذلك بالعمر المديد على قيد الحياة). لذا اعتقد السومريرون أن ملوكهم العظام عاشوا أعماراً خيالية. أما العبرانيين الذي استغلوا هذه الأسطورة فقد جعلوا الإله عبرانياً، ونسبواً أنفسهم لنوح النبي الذي حمل أولاه الثلاثة معه على السفينة، فجعل أبناء حام ويافث (في بعض الروايات) عبيداً لأبناء سام وهو جد العبرانيين. وتورد الروايات التواراتية أن أبناء حام قد استوطنوا حول نهر النيل أي مصر أما أبناء سام فهم من الرعاة. وهذا يعيد لنا الصراع الرعوي الزراعي، وغلبته على الفكر العبراني، ومصوراً طموحاته في استعباد أبناء المزارعين في الرافدين، والشام، وأرض مصر.
أسطورة الأرض الموعودة..
في جبل إيل، جبل الله، سكناي
في الأماكن الهانئة سكناي
من ملحمة البعل الكنعانية
يسجل العبرانيون في كتابهم المقدس طموحاتهم في أرض فلسطين. وقد رمز للعبرانيين بإبراهيم النبي وساراي (سارة)، ولوط حينما ظهر لهم الإله إيل ووعدهم الأرض. "فأخذ إبرام ساراي امرأته، ولوطاً ابن أخيه، وكل مقتنياتهما التي اقتنيا والنفوس التي امتلكا في حاران، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان، واجتاز إبرام في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة مورة، وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض، وظهر الرب لإبرام، وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض، فبنى هناك مذبحاً للرب الذي ظهر له" سفر التكوين. وتعبر التوراة عن أن الكنعانيين هم أصحاب الأرض بإلتواء "وكان الكنعانيين حينئذ في الأرض"، فيمنح الرب الأرض لإبراهيم و"نسله" من بعده، وهي أرض لا يملكها الرب كي يمنحها لغرباء عنها!
وتبدى للقمني أن العبرانيين اختاروا الإله إيل أكبر آلهة الكنعانيين ليكون إلهاً لهم، ثم أعلنوا أنه اختارهم ليمنحهم تلك الأرض المقدسة.
أسطورة المسيح الملك:
لم أستطع وضع ملاحظات بما جاء في هذا الفصل بسبب بعض الظروف الصحية..
الحديث عن الملوك الأربعة:
روى مجاهد عن ابن عباس قال: مَلكَ الأرض كلها أربعة: مؤمنان وكافران: فأما المؤمنان: فسليمان وذو القرنين
وأما الكافران: فالنمروذ بن كنعان، وبخت نصر.
المؤمن الأول: سليمان بن داود
يروي البخاري عن أبي هريرة أن النبي محمد تمكن من أحد الجن بعدما قطع عليه صلاته، فأراد ربطه في ناصية المسجد إلاَّ أنه تذكر دعوة النبي سليمان بألاَّ يمنح لمن يأتي بعده مثل ملكه، فتركه النبي محمد. وكما جاء في كتب التفاسير الإسلامية فإن ملك سليمان بن داوود كان أسطورياً، فتحت رايته كان شياطين الإنس والجان، والعفاريت، وله الريح، والسحاب، ويدركُ لغة الطير والنمل وله القصور الباذخة، والجيوش الجرارة... إلى ما هُناك.
إلاَّ أن سيد القمني يسترجع نصوص الكتاب المقدس -التي شكلت لاحقاً مرجعاً للنصوص القرآنية- ويوردُ ملاحظات تاريخية، وجغرافية عليها مبيناً مغالطة اليهود فيما ذكر بكتابهم المقدس عن المملكة السليمانية. فهذه المملكة الأسطورية -التي كانت لا تعدو دويلة صغيرة تتمركز حول مدن صغيرة - كانت تدفع الإتاوة لملك صور الفينيفي وفقاً لسفر الملوك الأول في الكتاب المقدس. أما حكمة سليمان التي جاءتْ في الكتاب المقدس أنه تكلم بثلاثة آلاف مثل "عن" الطير والحيوان والنمل" فيرجح القمني أنها كتاب شبيه بكتاب بيدبا "كليلة ودمنة". لكن القمني يعزز شكوكه تلك باستذكاره أن اللغة التي كتب بها الكتاب المقدس كانت بدائية ساكنة حروفها غير مصوتة ومحرَّكة مما يمكن أن تؤدي إلى سوء فهم وخلط في الحروف فتصير "عن" الأشجار والحيوان والنمل "إلى" أو "مع" الأشجار والحيوان والنمل".
أسباب سقوط المملكة:
١. العبرانيون الوافدون إلى بلاد الشام مثَّلوا حركة استعمار استيطاني، وقد بدأوا بموجات إبادة لأصحاب الأرض الأصليين مما خلق الحقد الدفين بين المكون الإثني لرعايا مملكة داود وسليمان.
٢. الارستقراطية السياسية، والاستقراطية الكهنونية في المملكة. ونجاح الطبقة السياسية بالدولة في احتواء كهنة اليهود -الذين كانوا تقليدياً من سبط لاوي (لافي)- ضمن سلك وحماية الدولة الرسمي. ثم تربص هؤلاء الكهنة بالدولة ليعودا لاستقلالهم السابق.
٣. انقسام يهودي-يهودي، قائم على تأثر قسم من القبائل العبرية بعبادات وأنظمة المصريين وعاداتهم، وآخر ظل محافظاً على بداوته عند حدود سيناء. أدى هذا الصراع بشكل مباشر لاحقاً إلى انقسام مملكة سليمان إلى مملكتي يهوذا، والسامرة.
٤. ظهور طبقة من رجال الدين الشعبيين تقود حركة التدين الشعبي بعيدة عن النظام الكهنوتي الرسمي، وقد مثلهم الأنبياء الشعبيون مثل عاموس، ميخا (في فلسطين)، أشعيا، دانيال، إرميا (في بابل أيام السبي). وقد دخل هؤلاء في صراع مع الكهنة الرسميين، وإيجاد صيغتين مختلفتين للدين وغاياته.
وقد انهارت الدولتين اليهوديتين تحت ضربات المصريين، والبابلين والآشوريين ليُسبهى العبرانيون إلى بابل فترة من الوقت.
بعد تلك الرحلة في الكتاب المقدس، يطوف القمني كذلك في كتب التفاسير الإسلامية التي تحدثت عن سليمان عليه السلام، وعن مملكة العجائب التي أقامها، مبيننا الخوارق التي اتصفتْ بها، أو اتصف بها ملكها سليمان نفسه ومنها قدرته الجنسية الهائلة. وينهي الباحثُ الحديث حول سليمان المؤمن بحديث جاء في تفسير ابن كثير: "عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت الريح فكشفت ناحية من الستر عن بنات لعائشة تلعب (أي إماء صغيرات)، فقال: ما هذا يا عائشة. فقالت: بناتي، ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع (أي وضعوا له أجنحة مصنوعة ليلعبوا به). فقال: ما هذا الذي أرى في وسطهن؟ قالت: فرس. قال: وما الذي عليه هذا؟ قالت: جناحان. قال: فرس له جناحان؟!! قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟
وهنا نصلُ -والكلام للقمني- إلى فصل الخطاب فيما روته عائشة عن رد النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك الرد الذي لم يأتِ كلاماً، قدرَ ما جاء رد فعل عفوي... قالت عائشة: فضحكَ حتى رأيتُ نواجذه!!
المؤمن الثاني: ذو القرنين
ذو القرنين: كان أكثر القضايا الخلافية في التراث الإسلامي. فهذه القضية قد بدأت بسؤال مثقفي قريش (النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط الذين سيقتلان صبراً بعد معركة بدر) الرسول الكريم محمد عن قصة ذي القرنين، فما كان من الرسول إلاّ أن استمهلهم حتى ينزل الوحي، لتنزل بعدها آيات سورة الكهف. وللعلم فإن قصة ذي القرنين لم ترد في الكتاب المقدس بتاتاً.
اختلف الإخباريون المسلمون حول ذي القرنين، في اسمه، وأصله، ومن أي البلاد هو، وأين وصل بفتوحاته، وحمل ذلك الاختلاف تناقضاً كبيراً بين الروايات التي زادها غموضاً غموض الآيات القرآنية حول ذي القرنين نفسه.
يرصد القمني وجود القرنين المعلقين على جدار الكعبة أيام الجاهلية، ويراهما كذلك في الرسومات الرافدية القديمة، وفي اسم آشور بانيبال - أي آشور باني بعل، أي آشور خالق بعل- وبعل هذا هو إله القمر الذي ترمز له الشعوب السامية بالقرنين. وكان لذلك صدىً عند المصريين في نحتهم تماثيلاً للإله آمون(إله الدولة) في هيئة كبش ذي القرنين. وطالما آمن المصريون أن الفرعون الحاكم هو سليل الإله آمون الخروف عبر ابنه الإله حور.
وعلى أرض الواقع التاريخي، فقد احتَّل الفرس بلاد الشام ومصر احتلالاً قاسياً فلم يعاملوا ديانة المصريين بالاحترام الذي انبغى له. وعندما وضع الاسكندر الأكبر المقدوني خطته لغزو الشرق وطرد الفارسيين منه، أتى مصراً فطرد الفرس منها وأعلن لأهل البلاد "ولائه لأهل البلاد وخضوعه لها، وأشاع بين الناس أنه أتى لينقذ آلهة مصر من الامتهان الفارسي. ومن خلال الاتفاق مع الكهنة، اعترف الكهنة بالإسكندر ابناً شرعياً للإله المصري آمون، فلبس تاج الملك ذي القرنين. وقد فعل الإسكندر الشيء ذاته عند فتحه لبلاد الرافدين ومعترفاً بآلهتها ومنتسباً لها، ثم واضعاً على رأسه تاج المُلك ذي القرنين.
الكافران: النمرود بن كنعان، وبخت نصر
الكافر الأول: النمرود بن كنعان
النمرود حسب الروايات الإسلامية هو أول من ادعي الإلوهية على الأرض التي ملكها من أقصاها لأقصاها. وقد حاجه إبراهيم في ذلك في قصره، محاجة متأنية متصبرة على هذا الفتى المجادل الذي يقتحم قصر ملك الأرض مجادلاً في ملكه. فما كان جزاءه -أي الملك - إلاَّ الهلاك لأنه نفض قوانين الديكتاتورية المطلقة في الحكم والدين! ولذا سلط الله عليه البعوض أو الذباب -باختلاف الروايات الإسلامية- لتنهش فيه أربعين أو أربعمائة سنة -باختلاف هذه الروايات أيضًا-!
ويرى القمني إصراراً في التراث الإسلامي لجعل الملك الذي حاج إبراهيم -الواردة في القرآن- هو نفسه الملك النمروذ المذكور في التوراة باقتضاب. إذ لا مجال للربط بين النمروذ والملك الذي حاج إبراهيم لبعد الفترة الزمنية بينهما. لذلك يسأل الباحث "لماذا احتسب رواة المسلمين أن صاحب برج بابل هو "ابن كنعان بن حام بن نوح" بالتحديد، رغم عدم النص عليه قرآنياً، ورغم أن مصدرهم الإسرائيلي بدوره لم يقل ذلك!"
للإجابة على السؤال يعود بنا القمني إلى أبي النمروذ وهو كنعان بن حام. كنعان الذي دعا عليه نوح عليه السلام بالعبودية لأبناء سام كما هي نصوص التوراة. وكنعان هو أبو الكنعانيين سكان فلسطين القدامى -كما يقول الكتاب المقدس-، ومن نسله أيضًا أهل مصر الأقباط والسودان سكان إفريقيا -وفقاً للكتاب المقدس أيضًا-. وبذلك فكأنما تضيف التراثيات الإسلامية مثلبة جديدة لكنعان وهي مثلبة الكفر وادعاء الإلوهية التي ظهرت في عقبه، إضافة للمثلبة العظيمة التي سردتها التوارة واستحق بموجبها اللعن من جده نوح عليه السلام. يشم القمني في ذلك الهوى القديم لدى العبرانيين بالأرض الفلسطينية، وموافقة المسلمين لهم لتفضيل سام على حام أي البدو على المزارعين..!
بعد هذا التحليل يأكد القمني أن اسم الملك النمروذ بن كنعان لم يرد في المسلات أو الحفريات الأثرية التي جرت في أرض الرافدين، أو بلاد الشام رغم اكتشاف جداول الملوك الذين حكموا المنطقة في المدونات المسمارية.
الكافر الثاني.. بخت نصر أو نبوخذ نصر..
وتختلف المرويات الإسلامية مرة أخرى حول هذا الملك الكافر، لكنها تتفق في نسبته إلى السوء دوماً كما يعتقد هؤلاء المؤرخين. نسب بعضهم والد بخت نصر إلى المصريين، ليحوي سوأته وسوأة المصريين الفراعنة. وأما الأصمعي فقال أنه لقيط وجد عند صنم، فكان هذا الملك ابناً غير شرعياً، وعابداً للأصنام.
أما علمياً فهذا الملك هو نبوخذ نصر الملك الكلداني القوي الذي جرد حملتين على العبرانيين في فلسطين، فدمَّر مملكتهم يهوذا في الأولى، وسباهم إلى بابل في الثانية. وظلوا في بابل مستعبدين حتى فتحوا أبوابها لقورش الفارسي الذي أعادهم لفلسطين حتى حين.
ومن خلال الملكين الكافرين نرى التراث الإسلامي يستلهم أعداء العبرانيين التاريخيين ليجعلهم أعداءه أيضًا، وليوافقهم في مخططاتهم التاريخية كذلك!
الفصل الأخير: النسخ في الوحي، محاولة فهم.
حديث الغرانيق، وسجود الكفار خلف الرسول محمد عند الكعبة في سورة النجم. تلى الرسول سورة النجم وهو بجانب الكعبة وأصحابه خلفه للصلاة، فقال: "أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى..تلك الغرانيق العلا، إن شفاعتهن لترتجى". حتى سجدت قريش خلف الرسول في الحرم باستثناء الوليد بن المغيرة الذي رفع كف تراب إلى رأسه.
إلاّ أن الله سرعان ما أنزل على رسوله الكريم: "لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً"، "وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره، وإذن لاتخذوك خليلا، ولولا أن ثبتناك لقد كدتَ تركن إليهم شيئاً قليلاً ٧٣-٧٤ سورة الإسراء.
ويبرر القرآن ما حدث أن الشيطان ألقى تلك الآيات المفتراة إلى الرسول محمد، لكن الله عزوجل تدخل بالآيات الصادقة لينسخها، ويؤكد حدوث ذلك الشيء مع الأنبياء السابقين. "وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي، إلاَّ إذا تمنى، فألقى الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يحكم الله آياته" ٥٢ الحج.
وتأتي المراجع الإسلامية لتنفي حادثة الغرانيق بأغلبها، لكن القمني له رأي آخر في ذلك. يرى القمني أن شفعاء قريش لدى الله كانوا رموزاً قبلية أيضًا، وهو ما يدعي أن تلتف القبيلة حوله بصفته ربها وشفيعها. وبتعدد الشفعاء والأرباب القبليون تزداد الفرقة القبلية. وقد فهمت قريش دعوة الرسول لإسقاط الشفعاء أنها دعوة لإذابة الأطر القبلية، التي تحمي المصالح التجارية، أو لنقل الأرستقراطية التجارية في قريش. ولهذا سجدتْ قريش مع الرسول محمد بعدما غيَّر رأيه بمسألة الشفعاء كما جاء في حديث الغرانيق.
وكما أشرنا بالأعلى فقد جاء الوحيُ سريعاً لينسخ تلك الآيات، ولينفي أمنية الشيطان إلى الأبد بإزالتها من نص القرآن الكريم، ولينشأ مبحث الناسخ والمنسوخ في علوم القرآن الكريم.
تعرض القمني لتناول د.حامد أبو زيد لظاهرة النسخ، وتجاوزه للتقسيم الثلاثي التقليدي لظاهرة النسخ.
- ما نسخت تلاوته وبقي حكمه: آية الرجم التي رفعت من القرآن وبقي حكمها معمولاً به في الشرع الإسلامي. وقد أراد عمر في خلافته أن يضيفها للقرآن... وهناك آية في القرآن: "واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم، فاستشهدوا عليهن أربعة منكم، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت، حتى يتوفاهن الموت، أو يجعل الله لهن سبيلاً" ١٥- النساء، ذهب العلماء اتفاقاً إلى أن هذه الآية منسوخة -رغم بقاء تدوينها في القرآن- بآية الرجم الغير موجودة في النص القرآني. وقد أثبتت أحكام الرجم بأحاديث نبوية أيضًا.
يشير ابن حجر أن آية الرجم رُفعت من القرآن- أي أنها لم تنسخ-، مع وجود قرآئن عديدة تدلل لرفض الرسول محمد لتدوين هذه الآية عندما نزلت بعدما سأله عمر بن الخطاب لذلك، ثم أصر زيد بن ثابت الذي جمع القرآن على عدم تضمينها للمصحف الشريف.
-ما نسخ حكمه، وبقيت تلاوته: يسوق القمني العديد من الأمثلة هنا عن هذا النوع من النسخ، لكنه يشير إلى أيضًا قضية مهمة، وهي ظهور ما اصطلح تسميته بالمنسأ في قضايا الناسخ والمنسوخ. فالمنسوخ يحرم الرجوع إليه بعد نسخه في الحياة اليومية، لكن العلماء استحدثوا "المنسأ" كي يستطيعون الرجوع للأحكام المكية حينما تحقق المصلحة للمسلمين عوضاً عن الآيات الناسخة. من أمثلة ذلك آيات التسامح مع الأديان الأخرى، وخصوصاً أهل الكتاب. ولكن هذه الآيات -آيات التسامح وحرية الأديان- نسخت تالياً بالآيات التي تقرر أن الإسلام هو دين الله، وأن للآخرين السيف، مثال: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" ٢٩-التوبة،"اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" التوبة. لهذا "المنسأ "هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى. بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة تقتضي ذلك الحكم"هكذا نقل القمني عن السيوطي في الصفحة ٣٦٢. لهذا تظهر النفعية في نظرية المنسأ حنى يأني أمر الله كما نقرأ في هذه الآية: "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره".
- ما نسخ تلاوته وحكمه: هناك روايات عديدة تشير إلى اختفاء أجزاء من القرآن الكريم دون أسباب واضحة. لعل أبرزها ما جاء -من طرق متعددة- عن غياب سورة الأحزاب ذات الآيات المئتين، والتي بقت بضع وسبعين آية. ويعلل د.طه حسين كما أورد القمني ذلك إلى مصحف عثمان، وجبر الدولة الإسلامية لنشره وتعليمه في البلاد الإسلامية وإحراق ما سواه من صحف قرآنية.
يعقب القمني في نهاية فصله أنه ما أراد من مناقشة قضية النسخ إلاَّ إبراز أن الواقع هو المقياس لفهم حركة النص المرتبط به، فينفعل به، ويفعل فيه، من أجل مصالح ومنافع وغايات أعم في فضلها.
0 comments:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.