في الثامن عشر من يونيو الماضي توفي (جوزيه ساراماغو)، خبر وفاته اخترق العزلة الاختيارية التي كنت أفرضها على نفسي، وأعاد لي ذكريات روايته (سنة موت ريكاردو ريس)، والتي قرأتها يوما ً وكتبت عنها بالطبع، كتابة لا ريب أنها مدفونة في مكان ما، بين كتابات أخرى متقادمة، في تلك الرواية اكتشفت ساراماغو، الأديب البرتغالي وصاحب نوبل 1998 م، بأسلوبه المميز الذي يسمونه السرد المتعدد الأصوات، حيث تتخلل السرد أصوات الأبطال، كلماتهم التي تأتي سريعة، قصيرة، في نهر الرواية الجارف.
الذاكرة أعادت لي أيضا ً، نية قراءة روايته الأخرى (العمى)، والتي تشكل مع (كل الأسماء) مساحة ساراماغو في مكتبتي الصغيرة، فرغم أعمال ساراماغو الكثيرة والتي ترجم بعضها إلى اللغة العربية، إلا أن ما تحصلت عليه هو هذه الثلاث فقط، أعود للنية التي كادت أن تكون مؤجلة مرة أخرى، لولا أني وجدت فراغا ً نادرا ً هذه الأيام.
في (العمى) ساراماغو هو ذاته نفس الأسلوب، نفس الروح الساخرة التي بالكاد نلمسها، نشعر بوجودها خلف الجدية الظاهرة، الرواية تدور أحداثها في مكان ما، مدينة لا تحمل اسما ً، بلد لا يحمل اسما ً، حتى الأبطال يكتفي ساراماغو بألقابهم، فهذا الطبيب، وهذه هي زوجة الطبيب، وذلك هو الكهل ذو العين المعصوبة، وتلك هي الفتاة ذات النظارات السوداء، وهذا ما يجعلنا نعتبر الرواية متحررة من المحلية، فهي تقع وتحدث في كل مكان، هي حكاية الإنسان عندما يتغير وجوده لتغير شرط وحيد من شروطه، وهو تغير مروع كما يطرحه ساراماغو، ويتلخص في تساؤل ممكن، ماذا لو عمي الناس تباعا ً؟ عمى لا سبب ظاهر له، والرواية لا تفتش أو تهتم بسبب العمى، وإنما تركز على الناس الذين تركوا للعمى في مكان محدود، مشفى مجانين سابق، حشر فيه العميان خوفا ً من أن يكونوا معدين، فرغم أن العلم يقول أن العمى لا يعدي، إلا أن توالي فقدان الناس لأبصارهم يتحدى العلم، في ذلكم المشفى يبدأ العميان في محاولة التعايش مع الوضع الجديد، التعليمات الحكومية التي تذاع عليهم كل يوم، تحذرهم من الخروج، أو الاقتراب من الحراس المستعدين للقتل، تقدم لهم وجبات غذائية، وتترك الباقي لهم، عليهم أن يعتنوا وينظفوا أنفسهم، نلاحظ مجتمعا ً جديدا ً ينمو، مجتمع يتخبط، فحتى حقيقة وجود مبصر وحيد في ذلك المبنى العتيق، مبصر لم يكشف نفسه، وادعى العمى ليتدخل فقط عند الضرورة، لم َ بقيت زوجة الطبيب وحدها؟ لم َ لم تعمى كما البقية؟ لا تفسير، فالرواية لا تقدم هذا النوع من التفسيرات، زوجة الطبيب استفاد منها الروائي كمحرك للأحداث، شاهد عليها، قائدة للقطيع الأعمى الذي تولت مسئوليته بعدما عميت المدينة كلها، وانهارت الحكومة، واحترق المبنى الذي كان مشفى مجانين، ثم نزل عميان، ثم ساحة تموج فيها الفظائع، كالعصابة التي احتكرت الطعام، وقايضته بالمال، ثم بالنساء، الإنسان وحش عندما يريد، حيوان عندما يفقد كل ما يربطه بالحضارة المصنوعة، هذا ما يقوله ساراماغو، الطبيب يعرف أن زوجته ترى، ومع ذلك يخونها مع الفتاة ذات النظارات السوداء، كأنما عندما لا يرى هو، يصبح المنكر ممكنا ً، الرواية تعرض علينا مشاهد تيه الإنسان، وهشاشته، كما تعرض لنا لمحات يخرج فيها الإنسان من الدرك، يستعيد إنسانيته، يحاول النجاة بروحه عندما لا يمكنه النجاة ببدنه، وهو صراع هائل، نراه في المشفى، في المدينة عندما يخرج الأبطال من المشفى ويجوبون المدينة التي تحولت إلى قبائل من العميان الباحثين عن طعام وعن سقف.
وكما جاء العمى بغتة، زال بغتة، بل قد لا يكون زال كما تقول زوجة الطبيب "لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان، عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يرون".
هل نحن في عماء؟ هل نحن لا نرى؟ نعم... وفي أشياء كثيرة.
العمى جوزيه ساراماغو
ترجمة: محمد حبيب
من منشورات: دار المدى
الطبعة الأولى 2002 م
عدد الصفحات: 379 صفحة
4 comments:
تحليل رائع جدا جدا. و القصة تبدو مشوقة شكرا على تعريفها لنا، فأنا لم أسمع بالكاتب إلا اليوم و يبدو أني قد فوت الكثير على نفسي.
سأبذل جهدي لأقرأ له في القريب.
وافر الشكر
لم أقرأ الرواية ولكن شاهدت الفيلم المستمد من أحداثها. ببساطة، عمل رائع ومسبوك
قرأت كثيرآ عن هذه الرواية ، أغرتني كثيرآ بالعودة لإقتناء الكتب ن وافر الإمتنا ن لحضرتك ، طبت سيدي (F)
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.