كان يكفي بالنسبة لي أن أقرأ مجموعة (الأشياء أقرب مما تبدو في المرآه) حتى أضع سليمان المعمري في قائمة الكتاب المفضلين، تحمست عند إصدار كتابه الأخير (عبد الفتاح المنغلق لا يحب التفاصيل) وسعدت بحصولي على الكتاب في إهداءات مدونة (أكثر من حياة) في 2010.
صدر للكاتب البالغ من العمر 36 عاما مجموعتان قصصيتان في 2000 و 2005، وحصل على جائزة يوسف إدريس للقصة العربية عام 2007 عن مجموعته الثانية (الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة) وله إصدارات أخرى، ويعمل رئيس قسم البرامج الثقافية في إذاعة سلطنة عمان.
أما الكتاب فيقع في 59 صفحة من الحجم الصغير ويتكون من 13 قصة، في القصة الأولى (امبااااع) نتعرف على صلة عبد الفتاح بشيخ القرية، وعلى سبب إطلاق أقرانه لقب شجاع غصبًا عليه رغم اتصافه بالجبن واللين، توجد في هذه القصة العديد من التفاصيل الزمنية والتي توحي أن عبد الفتاح في أواخر العشرينات من العمر، نتعرف كذلك على أن له راتبا جيدا وله من الصفات ما يفوق أقرانه في القرية، لكن كل هذا لم يشفع له عند شيخ القرية، تنتهي القصة بثغاء الشاه دون أن نعلم هل قام عبد الفتاح حقا بما كان يطلبه منه المجتمع، يغلب عليّ الظن أنه لم يتمكن من إتمام ما أراد القيام به. راقت لي السخرية اللاذعة في خطاب الأم لعبد الفتاح لابنها ومقارنتها الأب بالتيس، وفي عبارة الكاتب أن عبد الفتاح يعي جيدا أن والده أهم من التيس.
في القصة الثانية يظهر عبد الفتاح المنعزل والانتهازي والكسول. تتمحور قصة (عطس) حول نزلة البرد التي أصيب بها البطل وحاول قدر استطاعته الإستفادة منها لاستدرار شفقة حبيبته، وللحصول على إجازة مرضية، ولتحقيق أمنيته القديمة في الحصول على الشهرة. تجري أحداث القصة القصيرة بسلاسة وسرعة، وينتهي يوم عبد الفتاح –ومعه هذه القصة- ليبدأ يوم آخر لكن بدون برد، وبدون أي انجازات تذكر. في القصة التالية (أبيض وأسود)، "يؤمن بطلنا بان مزرعة الخيال وفيرة المحاصيل"، لذا يقوم بسقايتها بانغماسه في احلام اليقظة، افكار شتى يعرضها القاص تبرز من خلالها شخصية الشاب الانتهازي والاحمق، وبشكل عام فإن عرض أفكار عبد الفتاح جعل منه شخصية مزعجة للقارئ، تظهر فتاة اخرى في حياة عبد الفتاح في هذه القصة، ويستمر في لامبالاته وأنانيته معها.
القصة الرابعة (الصابونة) يعود فيها عبد الفتاح -ذو الـ32 عاما- بذكرياته إلى عيد ميلاده ال27 والذي تلقى فيه هدية من خطيبته حينها، لا يزال عبد الفتاح بعد خمس سنوات من فسخ الخطبة يعود إلى الهدية وإلى تذكر الحادثة التي بسببها قرر قطع علاقته بخطيبته الذكية والجميلة. صفات أخرى سلبية يحملها البطل في هذه القصة تتمثل في سوء الظن والسطحية وعدم الثقة بالنفس. وفي القصة التي تليها (حرية شخصية) يبدو مغتربا غير مسلح بلغة البلد الذي اختار الغربة فيه. يعود مرة أخرى الى تخيلاته حينما يرى صورتين في جريدة. يظهر انعزال عبد الفتاح وانغلاقه جليا عندما تشغل تفكيره توافه الأمور. ويعتزم صنع مواقف بطولية من خيالات ومبادرات لا تقدم او تؤخر. مرة اخرى يعيش المنغلق في عالمه الخاص في القصة التالية (كاريزما)، وبرغم انه لم يعد مغتربا هنا، الا ان غربته الداخلية لا تزال تسيطر عليه، ليجد سلواه في ما خيل له انها ابتسامة كانت موجهة له. لا أجد ارتباطا بين عنوان القصة وبين أحداثها، كاريزما المذيعة لم تكن حاضرة بقوة وبالتأكيد لم يكن عبد الفتاح مقصودا بها.
لاحقا، يحاول عبد الفتاح تعريف (الخطأ الفادح). من الطريف اني قمت بالبحث عن معنى كلمة الفادح ولم أجد، ما يدفعني للتساؤل عما أوحى للكاتب بهذه الفكرة. قصة قصيرة جدا لا تكاد تملأ ورقة واحدة يظهر المنغلق فيها ساذجا حد البله. للأسف أن نهاية هذه القصة لم تكن أيضا نهاية حياة المنغلق. (المنبه) قصة ممتعة وموجزة لا تتجاوز الورقة الواحدة، نرى فيها عبد الفتاح الموظف المتسيب، والذي لفرط غبائه يعتقد أن المنبه لم يكن يرن في السادسة بل في التاسعة، ولشدة جزعه من التسيب وتوابعه لم يغمض له جفن طوال الليل، عبد الفتاح هنا شخص تحركه الظروف ولا يحركها. فكرة غريبة خطرت لي أن عبد الفتاح لم يكن يميز بين الرقمين 6 و 9 في المنبه. القصة التالية تحمل أسم (الفاشيست)، عبد الفتاح لم يعرف معنى الكلمة، أعترف أني أيضا لا أعرف معناها لكني أؤمن على دعاء عبد الفتاح.
قصة (جدي والعريش) من القصص التي أعجمت علي في هذه المجموعة، بيد أنه يتضح لي أن عبد الفتاح قد أصيب بمس من الجن كما أصيب كل أفراد قريته. في حين أن قصة (الخروف الضائع!) من القصص الجميلة جدا والتي أشك بشدة أن بطلها هو عبد الفتاح المنغلق. تبدأ القصة "ماذا يعني هذا؟!!" وتستمر حتى النهاية في السؤال عن معنى الأشياء والأحداث المتكررة باستمرار. من المحزن أن الخروف الضائع ظل ضائعا حتى بعد إيجاده، من المؤسف أيضا أننا لم ولن نتمكن من معرفة تكملة الخبر المقطوع.
تحوي القصة قبل الأخيرة (أقول وقد ماتت بقلبي حمامة) مبالغة في حساسية الراوي. وتأتي الأخيرة (العزاء) خاتمة جميلة ومناسبة لمجموعة القصص، غير أن بطلها يبدو أكثر ذكاء وحدة من عبد الفتاح. تعرض القصة بأسلوب لطيف جلسات العزاء ولأول مرة يدور حوار بسيط أنهاه البطل بفظاظة.
جميع قصص (عبد الفتاح المنغلق) تسير بسلاسة وبعرض سريع لأحداث بسيطة، تشير إلى دلالات أكثر عمقا في المجتمع. وفي القصص قدر من السخرية المستترة والممتعة، وقد فوجئت بكم الصفات السلبية التي يحملها بطل هذه القصص دون محاولة القاص تلميعها أو تبريرها، وهو أمر أضاف لواقعية القصص. إن كان ثمة رسالة يدعو القاص إليها من خلال مجموعته هذه، أعتقد أنه يدعو إلى ترك الصفات السلبية المنتشرة في المجتمع من خلال إشارته إلى انغلاق عبد الفتاح وسوء أحواله. أو ربما كانت هناك إشارات أخرى أعمق لم تتبدى لي. بساطة القصص وغياب الأسلوب التوجيهي فيها أوقفني مرات عدة عن كتابة هذه القراءة، متساءلة عن ماذا يرمي الكاتب إليه من عرض أفكار البطل. يبدو الحوار منعدما في القصص ولعل هذا كان متعمدا لتأكيد انغلاق البطل. برغم ذلك، يظهر بطلنا أحيانا بطريقة أكثر ذكاءا وحيوية كما في قصتي (الخروف الضائع!) و(العزاء) حتى يخيل للقارئ أنه ليس نفس منغلق القصص السابقة. الكتاب جيد ومسل خاصة أنه يتعرض لظواهر كثيرة نراها ونعرفها في مجتمعنا بكلمات قليلة ساخرة، وهو أمر أتقن الكاتب إخراجه.
2 comments:
شكراً آمنة على قرائتك ، لم أقرأ لـ المعمري سابقاً .. وقد أقرأ هذهِ المجموعة يوماً ما !
من المثير أن بطل القصص بصفاته السلبيّة "مع سلبيّتها" هي محاولة الراوي لا لـ محاولة تلميعها بل فضحها بطريقةٍ ما لأن ما يقع لبطل القصة هو ما يقع في المجتمع !
اشتريت هذا الإصدار من معرض الكتاب الأخير بمسقط ... وهذه القراءة شجعتني على البدء بقراءة المجموعة في أقرب فرصة ممكنة
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.