(نُشرت هذه الشهادات في ملحق شرفات بجريدة عمان، بتاريخ 25 يوليو 2010، ملحقة باستطلاع قرائي حول مبادرة لويس سوريانو)
عــــن الشـمــوع التـــي تلعــن الظــــلام
عبدالله حبيب: إذا أردت أن تعرف كل شيء
عن بلد ما..زر محلات الأثاث
(1)
سأسرد ببعض الإسهاب شيئاً من ذاكرتي الشخصية لأنني أعتقد انه يغنيني عن قول ما أريد قوله تجريداً.
بعد عودتي الأولى من الولايات المتحدة في 1992 وتمكني من العثور على استوديو صغير للسكن بالإيجار بدأت في تأثيثه بشراء ما احتجت من محلات الأثاث المتمركزة في منطقة الخوير. وفي هذا الأمر واجهتني مشكلة واحدة (إضافة إلى مشكلة غلاء الأثاث طبعاً!)، وهي الاختيار بين عدة أشكال، ونماذج، وطرازات، وأحجام من رفوف الكتب لمكتبتي وذلك لفرط توافرها في تلك المحلات.
بعد نحو خمس عشرة سنة من ذلك التاريخ عدت من الولايات المتحدة للمرة الثانية. تمكنت بصعوبة شديدة وطول وقت من الحصول على "الحلم العماني"، أي شقة معقولة إلى حد ما بإيجار غير فاحش جداً (تنويعاً على "الحلم الأمريكي" الذي هو بناء وامتلاك بيت!). زرت نفس محلات الأثاث التي زرتها قبل نحو عقد ونصف من الزمن لتأثيث عشي الصغير بـ"أحلام الحالمين": سرير لا ينكسر تحت وطأة كابوس صغير، طاولة طعام لا تنحطم رُكَبُها الأربع لمجرد أن طبق سلطة وضع عليها، طقم جلوس يمكن أن يجلس عليه عصفور وعصفورة من دون أن يضطرا إلى الطيران "كل بوسه بوستين، حضنه حضنتين" كي يحافظ على توازنه ولا يعود بدوره طائراً إلى الصين أو إلى ماليزيا، طاولة تلفزيون لا تجعل أخبار العالم تنسكب على أرضية غرفة الجلوس فجأة واحدة، دفعة واحدة، و... طبعاً رفوف كتب!.
حقاً صدقاً، صدقاً حقاً، قسماً عظما، عظماً قسماً، لم أجد في أي من تلك المحلات رفوف كتب إلا من نوع "المكتبات" التي توجد في المكاتب التي توضع بضعة ملفات، ومنحوتات، وهدايا تذكارية، وما شاء صاحب المكتب من دلائل "البرستيج".
ولأني استبعدت خيار تكليف نجار بصناعة (إذا كانت هذه هي الكلمة الصحيحة لوصف عمل النجار) لأسباب ستخرجنا من السياق، فقد طال بي البحث حتى وجدت ضالتي بخيارات طرازيَّة محدودة جدا في أحد محلات الـ"سِتي سنتر". ولم تشمل تخفيضات ذلك المحل التي كنت أنتظرها على أحر من جمر خشب رف يحمل كتباً بعد أن "اكتشفت" مثل كرِستوفر كولومبوس وجود منى القلب ومطلب الروح رفوف الكتب فيه!.
ما الذي يعنيه هذا التنويع "الأوروِلي" المريع في "1984"؟!. أيجوز أن يُسَكَّ هذا التنويع: إذا أردت أن تعرف كل شيء عن بلد ما فعليك بزيارة محلات الأثاث فيه؟! يا الهي، حتى أصحاب محلات الأثاث ومورِّديه وضعوا في اعتبارهم وتوصلوا إلى قناعة مفادها أننا شعب لا يقرأ! ولذلك فقد شطبوا من قائمة بضاعتهم رفوف الكتب التي هي في واجهة معروضات أي محل أثاث في العالم. أي رعب هذا؟! أي فزع؟! وكيف يعقل، وضمن أي منطق بحق آلهة الإغريق كلهم، إنه بمرور نحو خمس عشرة سنة ازدادت فيها أعداد المتعلمين، وذوي المهن التخصصية، والخريجين، وطلبة الجامعات والكليات؛ فإذا بالنتيجة "تَدَنْصُرُ" (نسبة إلى الديناصور) رفوف الكتب؟! (مع الاعتراف أيضاً انه خلال الخمس عشرة سنة الفائتة ازدادت أيضاً أعداد المحطات الفضائية بما فيها محطات الـ "هشِّك بشِّك"، ومحطات "لا بَسْنِي ولا يسدِّك"!، وقد يكمن الكثير من الداء هنا).
(2)
فليدرس باحثونا أسباب تحوِّلنا هذا، فإن استمرت الأمور على هذا النحو سنكون شعباً "أميَّاً" من الناحية الثقافية. ولكن حتى يتمكن أولئك من التوصل إلى استنتاجاتهم، وحتى يتم تشكيل اللجان، وصدور التوصيات، وإقرارها، ورفعها، وتنزيلها، وما في النصف من هذا من حركات، الخ، فإن على كل فرد، وجماعة، ومجموعة، ومؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني المسارعة إلى إشعال الشموع المتفرقة كل بطريقته وذلك من أجل العمل على إشاعة "ثقافة القراءة" في موازاة لـ "قراءة الثقافة" في بلادنا.
سأضرب مثالاً ساطعاً قامت به "مجموعة مركز المعلومات" في جامعة السلطان قابوس في إبريل من هذا العام. لقد أقامت هذه المجموعة الطلابية الفتيَّة (أظن انه بونابارت هو من قال في أواخر عمره:"تأتي المطامح الكبيرة والنبيلة دوماً من ذوي الأعمار الصغيرة") فعالية رياديَّة تمثلت في إقامة معرض لبيع الكتب المستعملة في الـ "سِتي سنتر" (وهي فعالية يزمعون – مرحى لهم مرحى -- أن تكون سنوية). جَمَعَ الشباب والشابات أولئك – هم المشغولون بالدراسة الجامعية وانهماكاتها ومتطلباتها – تلك الكتب عبر اتصالات شخصية من هواتفهم الخاصة بمن توسموا فيهم الخير والتضامن، وأقاموا المعرض. حصل الناس على كتب جيدة بأسعار زهيدة متاح الحصول عليها في مكان عام يرتاده الجميع. لكن لم ينته مسعى إشاعة "ثقافة القراءة" عند ذلك الحد لدى أولئك الفتية والفتيات بل تجاوزه؛ فقد تبرعوا بكل أريحية بالريع المُتَحصَّل عليه من بيع الكتب المستعملة لصالح معهد عمر بن الخطاب للمكفوفين من أجل شراء كتب "بريل" لتمكين المكفوفين من أجل أن يكونوا مبصرين عبر القراءة (ولم يكن شخص مثل طه حسين "أعمى" أبداً: ردَّ على المتظاهرين الذين احتشدوا حول مبنى وزارة التربية والتعليم اثر صدور قراره بضرورة تعليم المرأة مرددين:"لا نريد وزيراً أعمى!" هكذا: "الحمد لله الذي جعلني أعمى كي لا أرى هذه الوجوه!"). كيف لا يستطيع المرء إلا أن ينحني احتراماً أمامهم، ولهم – طلبة "مجموعة مركز المعلومات"، عنيتُ ؟. كيف يمكن للمرء أن يمر بمبادرة مثل هذه مرور الذين لا يقرأون؟.
لماذا لا "نتعلم"، نحن الذين ننتسب إلى منظمات حكومية و/أو شبه حكومية/ شبه أهلية مثل الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، والنادي الثقافي، والمنتدى الأدبي، إلخ، من هذا الطلع الطالع، فتُقام أمسيات أو فعاليَّات توزَّع فيها كتب من قبل المشاركين، سواء أكانت من إصداراتهم أو من إصدارات غيرهم، بالمجَّان أو بأسعار رمزية في المجمعات التجارية، والأسواق التقليدية، والميادين، والحدائق، والمناسبات العامة، خروجاً من نخبويَّة "قراءة الثقافة" إلى مشاعة "ثقافة القراءة"؟. لماذا لا يتضمن مهرجان مسقط فعاليَّة قرائية عامة في حديقة القرم مثلاً؟. لماذا لا يبادر الكُتَّاب الى الذهاب للمدارس وإقامة "حلقات قراءة" للأغضاض فيها عوضاً عن الاقتصار على "الأمسيات"، و"الندوات"، و"المحاضرات"؟.
لا فائدة (حتى الآن في الأقل) فيما يتعلق بإشاعة "ثقافة القراءة" لا في المؤسسة ولا في "هوامير" القطاع الخاص. سندعهم مشكورين يبنون مساجد تحمل أسماءهم كي يحسب ذلك في ميزان حسناتهم بعد عمر حافل بأعمال البَر (نعم، بفتح الباء) والتقوى حين يلاقونه ذاك الذي كانت أول كلمة في خطابه لـ"خير أمة أخرجت للناس": "إقرأ"، ولكنهم لم يبنوا مكتبات!.
لا فائدة إلا في المبادرات الذاتية الصَّبورة. لا فائدة إلا في شمعة وحيدة تلعن كل أسافين
الظلام
سليمان المعمري: لنغير نظرتنا لمن يقرؤون
في مقهى أو محطة انتظار أخرى
في البداية سأنظر إلى الكمية القليلة من الماء العذب في الكأس وسأقول إننا أيضا لدينا في السلطنة أكثر من مبادرة لنشر القراءة ينبغي للمرء أن يشكرها ويبذل ما بوسعه لمساعدتها على النجاح ، من هذه المبادرات مثلا مشروع المكتبة المتنقلة في ولايات ومحافظات السلطنة، والذي يزمع النادي الثقافي تدشينه قريبا بمساعدة إحدى شركات القطاع الخاص، والنادي الثقافي نفسه كان له دور فاعل في توفير الإصدارات العمانية من خلال الزاوية التي خصصها للكتاب العُماني في مجلس الاثنين.. وهناك أيضا مشروع نبيل آخر تضطلع به مجموعة "إبداع البصيرة" المهتمة بشؤون المكفوفين في جامعة السلطان قابوس بإعداد مكتبة الكترونية كبيرة تمد المكفوفين بكتب متنوعة ، إضافة إلى ذلك مشروع مدونة "أكثر من حياة" للصديق أحمد المعيني التي لها دأب واضح في تشجيع القراءة وحب الكتب ، كما أعرف عددا من الأصدقاء الأدباء الذين يعملون بسلك التدريس يحاولون باستماتة غرسَ حب القراءة في نفوس النشء.. منهم على سبيل المثال لا الحصر الصديقان حمود الشكيلي وسعيد الحاتمي.. ولكن مع هذا سأقول إن هذه الحالات هي حالات استثنائية لواقع مختلف تماما..قد يكون سوريانو أيضا حالة استثنائية ولكنها وجدت لها أرضا خصبة في كولومبيا.. أما نحن فبحاجة إلى سنوات ضوئية لتشكيل هذه الأرض الخصبة..وأؤكد أن مشكلتنا لن تكون في غياب الحمير أو أية وسيلة مواصلات أخرى لمساعدة صاحب المبادرة على إتمام مهمته بنجاح.. الأمر في نظري كالتالي: لتكون لدينا مبادرات لنشر القراءة بين طلاب المدارس فلا بد أن يكون المعلمون الذين لهم روح سوريانو وحيويته ودأبه، ولا ينظرون إلى التدريس كمجرد مهنة لأكل العيش فقط هم القاعدة لا الاستثناء، ولا بد أن يكون لدينا كذلك طلاب كطلاب سوريانو متعطشون للقراءة أكثر من تعطشهم لمباريات ريال مدريد، أو للإجازات أو لحفلات المطربين، وقبل هذا وذاك لا بد أن تكون لدينا مناهج تدريسية تغرس في النشء منذ نعومة الأفكار حب القراءة والبحث واكتشاف العالم من خلالهما، لا من خلال تقديم بحث جاهز يشتريه الطالب من مكتبة قرطاسيات ويقدمه لمعلمه دون حتى أن يكلف نفسه بمجرد قراءته، ويقوم هذا المدرس بدوره بتقييمه رغم علمه المسبق بأنه ليس من جهد الطالب!، بل وأن هناك مدرسين هم أنفسهم من يوجهون طلابهم لهذه البحوث الجاهزة التي تباع في المكتبات كما يباع الشاي في المقاهي.
قبل أن يكون لدينا مشروع طموح كمشروع سوريانو علينا أولا أن نغير نظرتنا المتشككة ( لكي لا أقول المزدرية ) لمن نراهم يقرؤون في مقهى أو في مستشفى أو أي محطة انتظار أخرى.
فاطمة الشيدية: كل شخص وطاقته وحماريه
الثقافة في الأساس فعل تغيير وبناء، فعل إيجابي مقاوم للتكلس والموات، ومزعزع للثابت والسائد في خطئه وصوابه، فعل يقوم على تسخير الذات (المرسل) للآخر(المتلقي) حتى لو لم يشعر الثاني بعظمة هذا الفعل وقوته، لكنه حدث بالفعل والقوة معا، هذا إذا لم يكن بإمكاننا أن نقول إنه حالة إشعال الذات وحرقها في سبيل الآخر، وهذا ما فعله المثقفون عبر الحقب التاريخية، والجغرافيات المتباينة والأزمنة السحيقة، المثقفون والكتاب الذين غيّروا وجه الأرض، وأعادوا تشكيل خرائط التاريخ، وأشعلوا الظلام، وأناروا العالم بالعلم والخير والجمال.
لقد عمل - الكثيرون منهم – عمل مؤسسات بكل حيوية ورغبة في التغيير، سواء بالعمل الجماعي أو العمل الذاتي، وسواء بأعمال واضحة وملموسة الأثر، أو من خلال اللغة التي هي الكتابة وهي الأداة الأهم لدى الكاتب، وسواء حدث ذلك من خلال الفعل أو من خلال التحريض عليه، أي من خلال إنتاج الأفكار أو تطبيقها، لأن إنتاج الأفكار - قد يزيد أهمية- عن تطبيقها، لأن هناك الكثيرين ممن يطبقون الأفكار، لكن منتجي الأفكار قلة.
إنه التغيير الذي يكون بالفعل أو بالكلمة، لأن فعل الكلمة لا يقل شأنا عن أي فعل آخر، إن الكتابة في حد ذاتها فعل تحريضي خطير، إنها وقود الروح والذاكرة، وقوة دفع للعزيمة، التي قد تفتر همتها، ولا يلهبها إلا سوط الكلمة. الكلمة السر الذي تنفرج معه كل المستغلقات، وتنفتح له كل الأبواب.
إن ما فعله "لويس سوريانو" هو فعل عظيم بالطبع، ويستحق الانحناء له، إنه الإيمان بقيمة الكلمة في صناعة الإنسان، وفي بناء الأجيال، ومن ثم الانتصار لتلك الفكرة التي آمن بها، وهي "حق الجميع في العلم والقراءة"، بتطبيق شجاع وحقيقي للمبدأ الراسخ في أعماقه.
وهنا يكمن الفرق فـ (إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة, فإن فساد الرأي أن تترددا) وهذا ما ينقص الكثيرين من أفراد ومثقفي هذا العصر، حيث لا مبادئ وقضايا يعيش من أجلها الإنسان، ويضحي بوقته وراحته وماله من أجلها، بل وقد يموت من أجلها إذا تطلب الأمر، فالفرد يعيش اليومي بكل تداعياته الطارئة من أكل ونوم وشرب وترفيه، دون شيء خاص وعظيم يسكن أعماقه ويحركه ويسعى له صامتا ومتحدثا، صاحيا ونائما، أما المثقف فيعيش غالبا فجوة بين التنظير والتطبيق حتى بينه وبين نفسه، وبين مبادئه وأساليب حياته، لذا تجد الأغلبية يحيون الجانب السلبي من الحياة متذرعين بالحظ والظروف، وذاهبين في اليأس والصمت، لاعنين الظلام بدلا من إشعال شمعة، ناظرين لنصف الكأس الفارغ ـ متناسين أنه يمكنهم أن يسهموا في امتلائه ولو بالقليل، وبأي شيء مما يملكون لأن قدراتنا متباينة، وأفكارنا متباينة مما يدعم الفكرة ويقويها.
ويبدو أنه كلما تقدم العمر ذهبت الذات نحو الأنانية والنرجسية، وباتت أكثر هروبا للداخل، وأكثر سلبية في التفكير، وصار الكل مهتما بمشاريعه الخاصة، وصقل مراياه الذاتية، وهذا ليس عيبا ولا مأخذا إذا تعلّق الأمر بالإنتاج، فإصدار كتاب هو إسهام في المعرفة الكونية بنقطة، وافتراض وجود قارئ محتمل واحد على الأقل، ولكنها السلبية الاستهلاكية والحياتية واليومية الذاتية والزحف لحياة الترفه والمعيشة السهلة والفصامية الحادة، متناسين دور المثقف في بناء المجتمع. ربما يعود الأمر (كتبرير غير مطلوب) لثقل الهم والتجربة، وصعوبة الحياة، أوللشعور بتساوي الأشياء في الفعل واللافعل، حتى لم يعد هناك ما يمكن أن يقدم، إنه الإحباط مرض هذا العصر اللعين.
إن ما فعله سوريانو ربما يعود في الأساس لكونه معلما، فالمعلم تحديدا، وأقولها إيمانا وإجلالا لدوره الحقيقي والجوهري في صناعة الأجيال، هو الشمعة التي تنير الدرب لبقية العمر، والمزارع الذي يزرع شتلات الجمال والوعي والفكر في نفوس طلابه وعقولهم ليشكّل منهم كائنات ناضجة بالوعي، ومدركة للحياة، إنه حقا مصنع لتخريج الأفراد الناضجين بالعلم والمعرفة والوعي، وقد خبرت ذلك شخصيا؛ حيث في صفحة قديمة من روزنامة العمر عملت معلّمة فور تخرجي من الجامعة، وكنت ممتلئة بالحماس والأفكار النبيلة لبناء المجتمع ونشر الثقافة، وتوعية الآخر، فعملت بجد على زرع روح القراءة في أذهان الطالبات الغضة والعطشى للارتواء بماء العلم والمعرفة، وكنت أتحرك برغبة عارمة لبناء جيل واعٍ مثقف، منطلقة من عشقي لهذا الوطن، وإيماني بدور الثقافة والمثقف في صناعة وتغيير الإنسان، فزرعت كما يزرع مزارع عاشق للأرض في تلك البتلات الصغيرة المتفتحة على الحياة نهم القراءة، وضعنا في كل صف (من الصفوف التي أدرسها) مكتبة صغيرة تغذيها الطالبات وأنا معهن بالكتب والمجلات والقصص القصيرة، وتتناوب على الإشراف عليها طالبة كل أسبوع، كما تشرف على دفتر الإعارة، وفتح المكتبة صباحا وغلقها مساء، وتحصلنا على عدد كبير من الكتب، كما كان مشروع المائة بيسة لشراء جريدة (كانت بمائة بيسة في ذلك الوقت) يمر على كل طالبة على عدد الطالبات وتمر الجريدة على جميع الطالبات كل صباح، ثم نعلّقها في الفسحة في مسند محدد لها، وضع في مكان بارز يمكن من خلاله قراءة الجريدة وقوفا، كما كنا نشتري مجلة العربي ونزوى وتتبادلها الطالبات بينهن.
بالإضافة إلى مشروع بحث المادة الذي خصصته عن شخصية أو ظاهرة أدبية، وتتم قراءته في الصف لتتعرف الطالبات على بضع وأربعين شخصية (وهذا كان عدد الطالبات في الفصل في ذلك الوقت)، بالإضافة إلى أنني أشرفت على الأنشطة الثقافية (الإذاعة والمسرح والصحافة، ولاحقا الجماعة الأدبية) مجتهدة أن أستخرج كنوز الأدب والتراث لأثقف طالبات المدرسة، وأوليت الشعر والأدب اهتماما خاصا في هذه النشاطات.
كما صنعنا لوحة أشبه بالمجلة الأسبوعية ثابتة الأركان، متغيرة المواد (شعر - قصة – مقال- حكمة – مثل الخ) وعلقناها في مكان بارز على حائط المدرسة، حيث تقوم الطالبات بنزع القصاصة السابقة، ووضع القصاصة الجديدة بإشراف مني، ثم نجمع هذه القصاصات في ألبومات محددة، لكل مادة وتوفرنا على الكثير من المواد.
كما كان الاحتفاء والتشجيع لكل موهبة واعدة، ومناقشتها فيما تكتب بحب ووعي، وتحفيزها على الإبداع هما حقيقيا وشاغلا شخصيا بالنسبة لي، كما أقمت أصبوحات وأمسيات أدبية دعوت فيها بعض الأدباء والشعراء لتكون حالة احتكاك لتلك الفتيات. بالإضافة للتشجيع الدائم لهن لارتياد المكتبة التي كانت بدورها تعدُّ الكثير من المسابقات لتشجيع القراءة كجائزة أفضل قارئة لكل شهر. الأمر الذي أثمر ترسيخا حقيقيا لفكرة القراءة والكتابة وحب اللغة العربية لدى الكثير من الطالبات، واللاتي أصبحن بدورهن معلمات لديهن خطط وطموحات جديدة للبناء والتغيير.
هذا بالطبع لاشيء أمام ما فعله "لويس سوريانو" لكن كل شخص وطاقته، وحماريه.
سعيد الهاشمي: من يقرأ؟ ولماذا نكدس الكتب؟
في البداية ليسمح لي العزيز لويس سوريانو بأن أوجه له التحية والتقدير على جهده النبيل، وحرصه الصادق لأنه استنصر لروح الإنسان بإيجابيته، وتساميه على العراقيل، وسعيه نحو إضاءة الشموع بدلا من ذرف الدموع. إنسان كلويس يحمل بين جنبيه روح عصفور لا يهمه من يستمع لغنائه؛ عين صقر لا تحفل بالحواجز التي تحول بينه وبين هدفه، والأجمل أنه يعبر عن إنسانية رفيعة تؤمن بأن الغد على الدوام يحمل في حقيبته شيئا مختلفا؛ هذا المختلف يرتبط إلى حد ما بأحلامنا وأفكارنا وتطلعاتنا التي تصحبنا في اليوم والليلة. كما احيي؛"ألفا" و"بيتو" على تقديم عونهما للإنسان في سبيل أن يكون اقرب إلى نفسه.
في عمان هناك فتية آمنوا بأثر القراءة والتنوير الذي تزرعه في النفوس وخاصة تلك النفوس التي أرهقها التعب، وأضناها اللهاث وراء لقمة العيش المستعصية. إذ أن تاريخ بلادنا حافل بنماذج تؤصل لقيمة الإخلاص للقراءة وحبها رغم شظف الحياة وقسوتها؛ لذا نجد أوقافا ممتدة على طول الوطن وعرض أراضيه مخصصة للقراءة؛ فمنها ما كان مخصصا لنسخ الكتب والمخطوطات ومنها ما كان معينا لإنشاء خزانات كتب متنوعة الموضوعات. والغريب في الأمر أن من أوقفوا هذه الأموال كانوا من بسطاء الناس وليس من علمائهم أو تجارهم، ومن نساء لم يذقن حلاوة التعليم ولا قطفن جنان الشهرة والمجد. نحتاج إلى إضاءة ولو صغيرة على هذه العتمة.
واليوم ما زال المسير مستمراً؛ فأعلم يقيناً أن المكتبات "الأهلية" التي تنتشر في بهلا وبدية وصور وسمائل ونزوى وبطين والمصنعة وعبري وغيرها من مدن وقرى عمان جاءت بمبادرات شخصية وجماعية خالصة ومخلصة جداً، جاءت لتبرهن على ايجابية الإنسان وحرصه على التعلم والمعرفة. جاءت لتشكر أهلها ومجتمعها بخير ما يكون الشكر. فهي لم تنتظر المؤسسات الرسمية، ولم تعول على من يحرص على الشكر والحمد من الآخرين. بل على العكس من ذلك؛ تحدت عراقيل تنظيمية وبيروقراطية عديدة، وتجاوز بعضها التشكيك في النوايا الصالحة فاستمر وواصل، وأبقى أبوابه مفتوحة لكل باحث جاد عن المعرفة بكافة صنوفها.
فنحن لا تنقصنا مبادرات كمبادرة سوريانو؛ ما ينقصنا هو إضاءة هذه النماذج وإحياؤها إعلاميا وثقافيا، والاحتفاء بها وبنبل مسعاها، لا أن نبالغ في تصنيفها بحسب القائمين على تلك المبادرات رغم ندرتها. فلماذا نأخذ موقفا من القراءة في مكتبة سعى في نشأتها أناس صنفناهم بأنهم دينيون وكأننا نحن لسنا كذلك، أو بشر يحتفلون بالكتاب الحديث وكأن عقولنا ستتغير بمجرد قراءة رواية أو قصيدة أو نص مترجم.
داؤنا فينا، ودواؤنا في تزكية نفوسنا من عوالق الجهل والتخلف المغلفان بالتعالم والادعاء بأن ما يدور في خلدنا من أفكار لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها. ثم على وسائل إعلامنا، ومؤسسات الثقافة عندنا؛ أن تنصف تلك الجهود التي تعاني من التهميش والتجاهل، وتقدم لها أقصى درجات الدعم والمساندة. وعدم التوقف عند الأسئلة البدائية المعرقلة؛ " ومن يقرأ؟" "ولماذا نكدس الكتب؟"
أما مطالبة الدولة وبالذات الحكومة بتوفير مكتبات عامة فذلك حق للناس، وواجب على الدولة، فلا فضل ولا منة في ذلك. فالدولة؛ حكومة وشعباً؛ إذا ما أرادت أن ترقى ويسمو الفكر الذي تنمو به، وتعيش معه؛ لابد من أن تربي أجيالها على حب القراءة والتربية بها.
شكرا لسوريانو لأنه من غابات كولومبيا البعيدة، ومن مجتمع كولومبيا الفقير والمخدر بالأفيون والماريجوانا أيقض فينا سؤالا خلناه غط في سبات عميق، انه " لماذا، وكيف، وأين نقرأ؟" نحن الأمة التي ندعي أنها أمة "إقرأ" وخير امة أخرجت للناس؟
0 comments:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.