18 يوليو 2010

قراءاتكم: رواية "كل الأسماء" لساراماغو (قراءة: رابع)


تحدثت في الأسبوع الماضي عن ساراماغو وعن روايته (العمى)، تلك التجربة الجميلة التي شجعتني على تكرارها مع الرواية الوحيدة المتبقية له في ذخيرتي (كل الأسماء)، لا يشي هذا العنوان بشيء، فلذا كان علي أن أتجاوزه وأغوص في نهر ساراماغو المتدفق.

هذا هو ساراماغو، السرد المتعدد الأصوات، جرعة السخرية والتي زادت كثيرا ً، والرسم المذهل للشخصية الأساسية (دون جوزيه) – هل هي سخرية من الذات؟ حيث يتطابق اسم البطل مع اسم المؤلف، كما أننا سنلاحظ أنه ليس في الرواية أية أسماء أخرى، وإنما يشار للآخرين بصفاتهم أو بوظائفهم الرسمية كما فعل في (العمى) -.

دون جوزيه هذا، هو أحد الكتبة في (المحفوظات العامة للسجل المدني)، معه سندخل عالما ً غريبا ً، نوع من البيروقراطية الحكومية لا يمكننا تخيله إلا مستعينين بمخيلة وسخرية ساراماغو، يمكننا اعتبار دون جوزيه – رغم أنه بطلنا – شخصية هامشية، يعمل بكل انضباط في المحفوظات العامة، يسكن في المنزل الوحيد الناجي من توسعات مبنى المحفوظات، بحيث يتصل منزله بمبنى المحفوظات بباب مغلق، يتيح لدون جوزيه تلصصاته الليلية، عاش 50 عاما ً، بلا زوجة أو أولاد، الشيء الوحيد الذي يقوم به ما خلا عمله، جمع معلومات عن الشخصيات المشهورة في البلاد، نوع من (المحفوظات الخاصة للسجل الجوزيهي)، هذا النشاط الليلي الغريب يجعله يخرق مجموعة من القوانين التي تسير عليها الحياة الداخلية للمحفوظات العامة، وهي حياة داخلية يصفها ساراماغو بتفصيل ودقة ساخرة.

في ليلة من الليالي وهو يسحب خمس بطاقات لمشاهير، بهدف نقل معلوماتهم إلى محفوظاته الخاصة، يكتشف أنه سحب ست بطاقات، البطاقة السادسة تخص امرأة مجهولة، امرأة ثلاثينية، مطلقة، عندها يضع دون جوزيه أمامه هدف الوصول إلى هذه المرأة؟ لماذا؟ لا ندري !!!

نعيش مع دون جوزيه رحلة البحث هذه، نتعجب من تفكيره الدائم، طريقته في توقع الأسئلة والاستجوابات وإعداد الأجوبة لها، لقائه بعرابة المرأة، توصله إلى المدرسة التي درست فيها في طفولتها، تسلله إلى المدرسة في نهاية الأسبوع، واستيلائه بعد بحث محموم على بطاقاتها الدراسية، كل التفاصيل التي تملأ رجلا ً مغلقا ً، يتعامل مع الحياة كلها بأسلوب موظف بيروقراطي صاغت روحه وعقله (المحفوظات العامة للسجل المدني).

شخصية دون جوزيه شخصية نادرة في الفن الروائي، لا نلتقي بشخصية مماثلة كثيرا ً، شخصية تبدو لنا قريبة جدا ً، بحيث ندخل إلى عمق ذهنيتها، ونعايش لحظة بلحظة أفكارها ومخاوفها، ولكننا في ذات الوقت نشعر بمسافة من السخرية والاستغراب تفصل بيننا، لا نفهم البطل، لا نتوحد معه، فلذا يبدو لنا المسكين تائها ً، مفقودا ً في داخل النص، وحتى في خارجه – أي معنا نحن، ذكرني بشكل غائم ببطل رواية (الحمامة) لباتريك زوسكيند، ولكن دون جوزيه كان أقرب كثيرا ً -.

يحدث فيما بعد تحول في الرواية، تحول يبدو لنا ساخرا ً، فالمرأة التي اقترب منها دون جوزيه كثيرا ً تنتحر، ويكتشف دون جوزيه ذلك عندما لا يجد بطاقتها بين بطاقات الأحياء، ويذهب في الليل إلى القعر المظلم لملفات الأموات ليبحث عن البطاقة المدسوسة هناك، ملتفا ً بخيط آريان – وهي فكرة ابتدعها مدير المحفوظات حتى لا يفقد أحد الباحثين أو الموظفين في متاهة الأوراق، وتشير كلمة آريان إلى الأسطورة اليونانية التي قدمت فيها آريان خيطا ً إلى ثيسيوس ليخرج بواسطته من المتاهة بعدما يقتل المينوتور -.

رغم انتقال بطاقة المرأة من قسم الأحياء إلى متاهة الأموات في (المحفوظات العامة للسجل المدني)، إلا أن هذا لا يثني دون جوزيه عن الاستمرار في البحث عن ما بقي من المرأة المجهولة، فيقرر زيارة قبرها مضطرا ً لقضاء ليلة في المقبرة الغريبة التي تنتشر في المدينة بلا حدود، وهناك وحالما يظن أنه وقف على القبر يلتقي براع ٍ يكتشف أنه يتسلى بتغيير أرقام القبور بحيث يحمل كل قبر شاهد لا يخصه، وبالتالي يكون دون جوزيه وصل إلى اسم المرأة المجهولة في المقبرة ولكن ليس إلى قبرها، يذهب بعد ذلك إلى المدرسة التي كانت تعلم فيها، وهي يا للسخرية نفس المدرسة التي اقتحمها دون جوزيه في فورة بحثه، كما يزور والديها ويتحدث معهما، ويتسلل إلى شقتها حيث يسمع صوتها على المجيب الآلي.

تنتهي الرواية بحوار بين المدير ودون جوزيه بعدما اكتشف المدير نشاطات دون جوزيه، وعرف قصة بحثه عن المرأة المجهولة، فالمدير يقترح إعادة المرأة للحياة عن طريق إتلاف بطاقتها الحالية، وإعداد بطاقة جديدة لها بدون تاريخ وفاة توضع مع الأحياء، ولكن عقبة صغيرة تقف في وجه الدقة والانضباطية التي تسير عليها (المحفوظات العامة للسجل المدني)، فشهادة الوفاة مفقودة في متاهة الأموات، فقدها دون جوزيه في ذلك المساء، فلذا عليه أن يبحث عنها ويتلفها أيضا ً.

يأتي اسم الرواية (كل الأسماء)، من فكرة أن (المحفوظات العامة) تضم كل الأسماء الممكنة، بما أنها تضم سجلات كل الأحياء والأموات، الرواية كما هو واضح رحلة بحث، وهي ليست من نوع رحلات البحث التي يصل فيها البطل إلى الحقيقة أو لحظة التنوير، وإنما هي العكس تماما ً حيث لا يصل البطل إلى شيء، ويبدو كما لو أنه يختلق حقيقته الخاصة بعملية التزوير المقترحة من قبل المدير.

كل الأسماء
جوزيه ساراماغو
ترجمة: صالح علماني
من منشورات: دار المدى
الطبعة الأولى 2002 م
عدد الصفحات: 268 صفحة

لنشر الموضوع على الفيس بوك والتويتر Twitter Facebook

1 comments:

فَاطِمةْ يقول...

رواية كل الأسماء عالم مختلف تماما عن كل العوالم التي سبق و أن زرتها في الخيال
رواية أثارت فضولي و أمتعتني و أحبطتني و أدهشتني و أغضبتني و أضحكتني و أحزنتني، رواية عشتُ معها التناقضات.

سُعدت بقراءة قراءتك
شكراً لك

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.